الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

ما بعد أوكرانيا ... "القطبية الخماسية"

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
مجلس الأمن (أ ف ب).
مجلس الأمن (أ ف ب).
A+ A-
في التاريخ الإنساني، في مسيرة الحضارات والإمبراطوريات والمجتمعات البشرية، هناك محطات مركزية ومنعطفات رئيسية وتقاطعات كبرى تواجه الأمم وصناع القرار. وبناء على السياسات والقرارات، الفراغات الناجمة، والفرص المتاحة، يتحدد مصير ويتغير طريق، وتتشكل دول وقوى وأقطاب. ثم ينشأ نظام دولي جديد.
 
محفزات التغيير
ولعل أكثر محفزات التغيير كانت الحروب، وما يترتب عليها من انتصارات وهزائم، من اقتناص وغنائم، ومن خيارات وقرارات تحدد نتائجها كل ما سبق من محصلات، وتبنى عليها قواعد النظام العالمي الجديد. وما يغذي تلك الصراعات، وتلك العدوانية والتعدي، كان ولا يزال يتلخص في طمع الإنسان منذ هابيل وقايين، في ما لدى غيره، وشعوره بالأحقية والتميز، أو الظلم والغبن.
 
ولعل أشهر تلك الحروب التي غيرت مسار التاريخ، الحملات التوسعية لإمبراطوريات الفرس والروم، الأغريق والرومان، العرب والمغول، الصليبيين والعثمانيين والروس. ثم جاء الاستعمار الأوروبي الحديث، وورث ما سبق. وخلال تلك الحروب تحت ألوية الدين والعنصر، الحق والباطل، الخوف والطمع، تبدل العالم سياسياً واقتصادياً، ثقافياً ودينياً، فنشأت حضارات إنسانية وهدمت أخرى. وفي الحالة المغولية، فقد بدأت تلك الحضارة بالتدمير وانتهت بالتعمير، فبعد أن أحرقت بغداد وهدمت مساجدها وأغرقت تراثها الفكري في نهر دجلة، أسلم الغزاة وتبدلت قناعاتهم وسلوكياتهم، فأنشأوا حضارة مغولية لا تزال شواهدها في الهند والصين وآسيا الوسطى قائمة.
 
حروب الدمار الشامل
ثم جاءت الحروب الحديثة، فلم تبقِ ولم تُذر. إذ ساهمت أسلحة الدمار الشامل في قتل عشرات الملايين وتدمير ما لايحصى من المناطق الحضرية والموارد الطبيعية. ففي الحربين العظميين الأولى والثانية أمتدت الحرائق الى كل أنحاء المعمورة، ولم تنجُ منها قارة ولا بلد ولا حتى جزيرة نائية. وانتهت الى "حرب باردة" قسمت العالم الى جبهتين، شرقية وغربية، وصنفته الى اقتصادين، رأسمالي وشيوعي، وسلمت قيادته الى دولتين، أميركا والاتحاد السوفياتي، وأحلافه العسكرية الى حلفين، الناتو ووارسو.
 
وبعد كل صراع يتشكل نظام دولي جديد. تسود أمم وتذعن أخرى. ويتقاسم العالم بموارده وسكانه هذا المتغلب أو ذاك. ورغم عيوب النظام العالمي في كل مرحلة، الا أنه يوفر استقراراً وسلاماً وأمناً نسبياً يسمح بمواصلة قافلة الحضارة الإنسانية طريقها.
 
وهكذا حلقت حضارة الصينين والفراعنة، الفرس والأغريق، الرومان والعرب، بالمعارف والعلوم الى آفاق غير مسبوقة. كما توافرت للبشر مساحات أوسع للتعاون والتعارف في مجالات التجارة والبناء والثقافة، وفي التمازج العرقي والتصاهر الأسري والتسامح الديني.
 
القطبية الكونية
كان أقطاب النظام الكوني في كل عصر هم رعاته وحماته، وهم من يضعون قوانينه ويلزمون الناس بها. رسم المستعمرون الإنكليز والفرنسيون والبرتغاليون والهولنديون والإسبان والطليان واليابانيون، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خريطة العالم، وحددوا أطر العلاقات الدولية، ما يحل وما يحرم في الحرب والسلام، ووضعوا اتفاقيات ملزمة للجميع، وكفلوا حمايتها. ثم ثار الألمان مرتين فقلبوا مع حلفائهم الطاولة، وخلطوا الأوراق. ورغم أنهم فشلوا في كل مرة بتحقيق أهدافهم وفرض عضويتهم في نادي ملوك الأرض، إلا أنهم نجحوا في قلب المعادلات، وإعادة تشكيل مجلس إدارة الكون.
 
وهكذا نشأت الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المنظمات والمؤسسات التي أسست لنظام عالمي جديد، وكفلت حقوق أعضائه، ونظمت علاقاتهم بقوانين ملزمة. كما توزعت أدوار رعاية النظام، وسلمت القيادة لزعامات خمس، تمثل أقوى الأعضاء وأقدرهم على حفظ التوازن وضمان السلام: الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، المملكة المتحدة، الجمهورية الفرنسية، وجمهورية الصين الشعبية.
 
صراع كوني جديد
أشرف هذا النظام على مرحلة تقدم غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وصل فيها الإنسان الى الفضاء، وسيطر على مقدرات الأرض، ووفر لسكانها رخاء وتنمية، وإمكانات تواصل وتعلم وعمل مذهلة. ورغم فشل النظام في تحقيق عدالة توزيع الثروة وفرص النجاح، إلا أنه سمح بالهجرات وشجع الاستثمارات وتبادل المصالح والمعارف والعلوم. ومع أنه لم يمنع اشتعال صراعات إقليمية من كوريا وفيتنام الى أميركا اللاتينية والقارة السوداء، إلا أنه نجح في حصرها ومنع تحولها الى عالمية. كما تمكن الرعاة في نهاية المطاف من إطفائها ونقل المتصارعين الى التبعية لهذا المعسكر أو ذاك.
 
واليوم، يشهد العالم من جديد صراعاً ينذر بحرب كونية جديدة. فكما آذن غزو النمسا وألمانيا جيرانهما بحربين عظميين، يبدو غزو روسيا لأوكرانيا محرضاً على حرب ثالثة، ليست بالضرورة نووية، أو حتى عسكرية، ولكن عودة جديدة لأجواء الاستقطاب والصراع والحروب بالوكالة التي حكمت الأرض أربعين عاماً.
 
القطبية الخماسية
وكما بعد كل صراع أممي كبير، ستتشكل قطبيات جديدة. وبدلاً من أن يحكم العالم قطب واحد، الولايات المتحدة، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، أتوقع أن يشارك الاتحاد الأوروبي، بكيان مستقل نسبياً ومنسجم مع الأول، كقطب ثانٍ، ويقفز بالصين اقتصادها الصاعد الى المركز الأول دولياً، وقوتها العسكرية المحلقة الى المركز الثاني خلال العقد الحالي، الى عرش القطب الثالث. أما روسيا، فتبقى قوة نووية عظمى، وجغرافية وثروات طبيعية لم يشهد العالم لها مثيلاً، ويمكن أن تحافظ على عضويتها في نادي الكبار، بخاصة اذا ركزت في المرحلة القادمة على التطور الصناعي والتقني والمنتج الاستهلاكي القابل للتصدير.
 
ويبقى المقعد الخامس متاحاً لتكتل جديد بدأ يتبلور. فمنظمة التعاون الإسلامي تضم 57 دولة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، منها دولة نووية (باكستان) واقتصادات عضو في مجموعة العشرين (السعودية وتركيا). ثم هناك جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، ومنظمة الاتحاد الأفريقي، وأكثر أعضائها دول إسلامية وعربية. وبالتالي، يمكن بالتنسيق في ما بينها، وبين بقية دول منظمة عدم الانحياز، في آسيا وأميركا اللاتينية، تشكيل كتلة هائلة، تستحق أن تكون قطبية وازنة، مؤثرة، فاعلة على المسرح الدولي، والنظام العالمي الجديد.
 
المطلوب عاجلاً، المبادرة والتوافق والتنسيق، وبخاصة بين أكبر هذه الدول، وأكثرها حضوراً في المنظمات السابق ذكرها، السعودية وتركيا وباكستان في المنظومة الإسلامية، ومصر والإمارات والمغرب والجزائر في المنظومة العربية. الفرصة سانحة كما لم تكن في تاريخنا الحديث كلّه، وطبيعة الفرص أنها كسحابة صيف إذا لم تستمطرها حين مرورها، أمطرت على غيرك و"راحت عليك"!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم