الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

المساعدات السعودية لتركيا وسوريا... "غيث مكّة"

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
مساعدات تركيا. (تعبيرية)
مساعدات تركيا. (تعبيرية)
A+ A-
قال لي العامل البنغلادشي: عندما تُبتلى بلادنا بالسيول والفيضانات ننتظر الغيث من مكة، ولا يخيب الرجاء فأولى الطائرات وصولاً تأتي حاملة شهادة "لا إله إلا الله" ومعها الطعام والدواء والفرش والخيام.
 
كان ذلك منذ أربعين عاماً أو يزيد. ثم سمعت شهادات كتلك من إخوة لنا في باكستان وأفغانستان وأندونيسيا وإيران، وفي اليمن والسودان وسوريا ولبنان، وغيرها من بلاد العرب والمسلمين عبر السنين.
 
غوث تركيا وسوريا
واليوم، وأنا في جنوب تركيا، أسمع قصصاً مماثلة من ناجين أتراك وسوريين، حفروا طريقهم عبر الزلازل والمحن، ووجدوا في العون السعودي ما وجده غيرهم: السبق، والتجرّد من المصالح، والبعد عن المنّ والأذى. يصل الغيث من مكة قبل غيرها، ويصل بكل مهنية وكفاءة الى مستحقيه، ثم يغادر حاملوه دون أن ينتظروا جزاءً ولا شكوراً.

المساهمات الشعبية
وعندما يعلن ملوك السعودية فتح باب التبرعات، يتسابق الناس الى تقديمها. أذكر ذلك منذ "ريال فلسطين" الذي كنا نتبرع به من مصروفنا المدرسي. ومؤخراً شهدت المساهمات لباكستان مئات الملايين خلال الأسابيع الأولى من الحملة الوطنية. ومثلها لتركيا وسوريا ولا تزال. فـ“غيث مكة“ لا يأتي من المال العام فحسب، ولكن قلوب الناس قبل جيوبها تتسابق للمشاركة في قوافل الإغاثة بالمال والمعدات والمواد والرجال.
 
دعوة المقيمين العرب
يقول بعض الإخوة العرب المقيمين في تركيا، ومنهم أستاذ التاريخ في جامعة يلوا، الدكتور عثمان سعيد، لم نكن نتوقع عندما أرسلنا إليك ندعوك للكتابة والتحدث في وسائل الإعلام العربية تشجيعاً لبلادكم وغيرها من البلدان الخليجية والعربية أن يأتي التجاوب بهذه السرعة.

الجسور الجوية
فقبل أن تكتب أو تقول أي كلمة، كانت الجسور الجوية من السعودية والإمارات والكويت وقطر ومصر والجزائر قد أقيمت مع المدن المبتلاة في جنوب تركيا وشمال سوريا. وكانت طائرات الشحن العسكرية والمدنية تنزل في مطارات البلدين تحمل الطعام والمولدات الكهربائية والمستشفيات المتنقلة والأدوية والأسرّة والخيام. وكان رجال الدفاع المدني والإنقاذ يتنقلون بكامل معداتهم الثقيلة والمتقدمة بين الأنقاض للبحث عن الناجين وعلاج المصابين وإسكان من فقدوا بيوتهم وأسرهم.
 
كل هذا تم بالتنسيق الدقيق مع الأجهزة المختصة في الحكومتين التركية والسورية والمنظمات الأممية والجمعيات الدولية. فلم يحدث تصادم أو تضارب في الخطط والبرامج. عمل احترافي وحماسة إنسانية وإمكانات كبيرة في وقت قصير ومساحة مزدحمة.
 
الصدى الشعبي
ويكاشفني الإخوة العرب بأن الذي تحقق خلال الأسابيع الماضية من صدى ومعنى ورصيد كبير للعرب في نفوس الشعب التركي لم نتخيّله ولم نكن نتوقعه بهذه السرعة والمدى. الشعب التركي عاطفي، وله مع العرب صولات وجولات في تاريخه الطويل.
 
ولم تجبر ما انكسر تلك السنوات الأخيرة التي تخللها التدخل التركي في شؤون العرب، واحتلال أراضٍ عربية، وردة الفعل السعودية والخليجية والمصرية ضد دوره في مؤامرة "الربيع العربي". ولم يسهم في رأب الصدع تلك الحملات الإعلامية الشعواء من كل جانب، تذكّر بالماضي المرير، وتثير مشاعر الحقد والكراهية لأسباب عرقية ومذهبية وسياسية.
 
معاناة المقيمين العرب
ولذا، فإن المقيمين في تركيا، وأكثرهم لاجئون، تعرضوا خلال تلك السنين لعداء شعبي تستثمره أحزاب قومية ويسارية وعلمانية لا ترى في العرب جيرة حسنة، ولا في ثقافتهم وتراثهم ما يستحق التقدير. ويتجهون في المقابل نحو الغرب والشرق طلباً للرضى والقبول، الاحتواء والانتماء.
 
لذلك كلّه تمنّينا على العرب أن يبادروا كما بادرت اليونان بكل تاريخها العدائي مع تركيا الى التواصل السياسي والإنساني، والتعبير عن التعاطف وتقديم الدعم.
 
امتنان وأمل
ففي مثل هذه الظروف يتلفت الناس الى من حولهم، ينتظرون ويناظرون الأيدي الممدودة، والقلوب الملهوفة، ولا ينسون أبداً من يبادر ويسهم ويقف معهم.
 
ولذلك نشعر اليوم بامتنان الأتراك تجاه كل عربي، وتبدّل نسبي في المشاعر والمواقف يمثل خطوة كبيرة على الطريق الصحيح. وبتواصل الخطى في هذا الاتجاه، والبناء على هذه القاعدة، نستطيع خلال سنوات صفاء غسل سنوات الخصام، وبناء الجسور التي هدمت والأواصر التي قطعت بين هضبة الأناضول وجيرانها العرب.
 
السوريون ممتنون
كان هذا ملخص ما سمعته من العديد من الإخوة العرب، بعضهم أساتذة في الجامعات التركية، وبعضهم إعلاميون ومهنيون وتجّار. أتى أكثرهم من العراق وسوريا واليمن، وجمعتهم الظروف الطارئة في بلدانهم، والأمن الذي ينشده كل إنسان لنفسه وأسرته، وفرص العمل والتعلم.
 
ولعل الإخوة السوريين أكثرهم امتناناً، فقد لمسوا حرص الرياض على إيصال المساعدات لأهلهم في سوريا، رغم القطيعة السياسية وعدم الثقة بأجهزة النظام الحاكم. ورغم الأحوال الأمنية في العديد من المناطق المحكومة بالجماعات الجهادية والإرهابية.
 
وبعض من أعرفهم له أهل في جنوب تركيا وفي شمال سوريا، مات من مات منهم، وفقد من فقد، وخسروا بيوتهم ومزارعهم، أعمالهم ومدارسهم.
 
سياسة مركز الملك سلمان
قلت لأحبتي هنا، في تركيا، من إخوتنا الأتراك والعرب، إن السعودية كصاحب النخوة، لا تفرق بين مبتلى وآخر، ولا تقدم على قوائم الدعم أو تؤخر حسب القرابة والثقافة والانتماء. فسياسة مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في كل المناطق التي يعمل فيها تؤكد بوضوح في جميع تعاملاتها على المساواة بين الناس، وعدم البحث في خلفياتهم، وعدم التفريق بين جماعاتهم.
 
ثم قد يقدّر الناس وقد يجحدون. قد يتذكّرون وقد ينسون. قد ينسبون المستشفيات والمدارس والأحياء السكنية الى بانيها، أو قد يتحايل الساسة والحكام فينسبون الفضل لأنفسهم وأحزابهم أو القوى الاجنبية التي يوالون.
 
لكن هذا لا يغيّر من سياسة السعودية في شيء. ففي المرة المقبلة، في الأزمة المقبلة، في الاستغاثة المقبلة، سيصل السعوديون قبل غيرهم، وسيسابق عمال الإغاثة أقرانهم، ويهطل غيث مكة السخيّ قبل أي غيث وكل غيث. فهذا قدر بلاد الحرمين… وهذا قدر أبنائها… استضافة وإجارة وتلبية نداء استغاثة.
 
@kbatarfi
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم