الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

مقتل بريغوجين: عالَمُ الكرملين يتغيّر

المصدر: "النهار العربي"
جورج عيسى
صورة ليفغيني بريغوجين وسط الزهور في سانت بطرسبرغ (أ ف ب)
صورة ليفغيني بريغوجين وسط الزهور في سانت بطرسبرغ (أ ف ب)
A+ A-

"إنّه ببساطة حثالة، هذا كلّ ما في الأمر". نادرة إلى نادرة جدّاً الكلمات المهينة التي يستخدمها الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بحقّ خصومه. ولا؛ لم يكن هذا التوصيف موجّهاً إلى زعيم مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين. لقد استخدمه ضدّ الجاسوس الروسيّ السابق سيرغي سكريبال.

 

تعرّض سكريبال لتسميم في بريطانيا بواسطة غاز الأعصاب "نوفيتشوك"، حين كان برفقة ابنته في أحد المطاعم أوائل آذار 2018. اتّهم حينها البريطانيّون الروس بتدبير محاولة الاغتيال وأطلق الغرب ردّاً ديبلوماسيّاً واسعاً على موسكو التي نفت ضلوعها في الأمر. بعد سبعة أشهر على الحادثة، ردّ بوتين في أحد المنتديات على سؤال بشأن التورّط المحتمل لروسيا: "لقد كان ببساطة جاسوساً؛ خائناً للوطن الأمّ".

 

"شيء جديد على اللائحة"

المتّهمون بـ"الخيانة" في روسيا عادة ما لا يغادرون الحياة وهم في أسرّتهم. بريغوجين واحد منهم. لكنّ مقتله لم يحدث بسقوط من النافذة أو بتسمّم أو بحالة من حالات الوفاة الغامضة التي طرأت مؤخّراً على نادي الكبار في روسيا. "لقد ظننتُ أنّهم سيستخدمون نوفيتشوك"، يقول مسؤول سابق بارز لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانيّة. "لقد أضافوا شيئاً جديداً إلى اللائحة". هو على الأرجح شيء صادم لم يتخيّله أحد.

يصف الكرملين اتّهام الغرب موسكو بالوقوف خلف مقتله بأنّه "كذبة محضة". على أيّ حال، أشرفت فترة التوصيفات والاتّهامات على النهاية. ما يلوح في الأفق مرحلة جديدة بالنسبة إلى الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين والمحيطين به. كبار قادة "فاغنر" وعلى رأسهم بريغوجين قُتلوا. الصداع من احتمال تمرّد آخر ضدّ موسكو سيخفّ تدريجيّاً. لكنّه قد لا ينتفي تماماً. الأوليغارشيّون في روسيا، ومعهم النخب الأمنيّة، يدوّنون ملاحظاتهم. بوتين لم يعد كما قبل، و"العقد الاجتماعيّ" المصغّر بين دوائر القرار ربّما ذهب إلى غير رجعة.

 

"وعدٌ واضح جدّاً"

ليس المقصود أنّ "انتقام" بوتين المفترض فاجأ تلك النخب. أسلوب الانتقام هو الأكثر إثارة للدهشة. يقال على نطاق واسع إنّه حين اجتمع بقادة "فاغنر" بعد خمسة أيّام على التمرّد، منحهم الرئيس الروسيّ عفواً أو ضمانات بأنّهم لن يُعاقَبوا. يذكّر الخبير في الشؤون الروسيّة مارك غاليوتي بما قاله المدير العام السابق لـ"المجلس الروسيّ للشؤون الدوليّة" أندري كورتونوف: "لقد قطع بوتين وعداً واضحاً جداً بعدم ملاحقة بريغوجين وبالتأكيد سيقول المدافعون عن السيّد بوتين إنّه يلتزم عادة بالوعود التي يقطعها".

إذاً لماذا تراجع عن وعده؟ يختلف الجواب باختلاف طبيعة التعهّد – إذا حصل بالفعل. ترى مؤسِّسة شركة "آر بوليتيك" تاتيانا ستانوفايا أنّ هذه المخاوف مبالغ بها. "لم تكن هناك ضمانات عامّة علنيّة بشأن سلامة السيّد بريغوجين، فقط تطمينات – وقد تمّت تلبيتها – بأنّه سيغادر روسيا إلى بيلاروسيا بأمان وبأنّه سيتمّ إسقاط الاتّهامات الجنائيّة بحقّه". بحسب هذا التحليل، يبدو أنّ طبيعة العلاقة بين بوتين وبريغوجين توقّفت على "غموض بنّاء" في نوعيّة الضمانات وبالتحديد صلاحيّتها الزمنيّة. لكن ليست كلّ النخب مقتنعة بهذا الهامش من المناورة الكلاميّة. ينقل غاليوتي عن مسؤول روسيّ لم يسمّه قوله: "ليس الأمر منطقيّاً حين يكون بريغوجين قد قبِل خطأه وخرج ينفّذ أوامره (الرئيس) في أفريقيا". واعترف المسؤول بأنّه يفكّر شخصيّاً في طريقة لإخراج عائلته من روسيا.

 

هاجسان متعاكسان

بحسب هذه الخيوط، ثمّة ملامح سيادة اتّجاهين متضاربين في موسكو: الخوف من تمرّد أو اعتراض على بوتين وسياساته من جهة، وهذا أصلاً ما يهدف إلى نشره "انتقامٌ" بهذه الطريقة العلنيّة، والخوف من انكسار قواعد العلاقات في دوائر القرار من جهة أخرى. إنّ تعطّل هذه القواعد يعني تعطّل آليّة عمل كانت فعّالة طوال عشرين عاماً. بعبارة أخرى، ثمّة عالم بكامله ينهار حول المقرّبين من بوتين. حين ينهي الرئيس الروسيّ فجأة الالتزام بوعوده ستخضع النخب لضغوط نفسيّة. قد تمثّل الأخيرة إحدى أدوات الحكم، لكنّ الإفراط في استخدامها يأتي بنتائج عكسيّة.

ليس الخطر في أن تنقلب تلك النخب على بوتين، أقلّه ليس الآن، بل الخطر في أن يشتبه هو بانقلابها عليه. في فترة من الفترات، ذكرت تقارير عدّة أنّ أكثر من عشرة أشخاص خضعوا للتحقيقات في قضيّة التمرّد ومنهم من لم تعرف عنهم عائلاتهم أيّ خبر لفترة أسابيع. الشكّ مُنهك وتحوّلُه إلى عالم قائم بذاته يصبح قاتلاً. باتت النخب تواجه ما يسمّيه مدير مركز كارنيغي-أوراسيا في برلين ألكسندر غابويف "التقلّب العاطفيّ" لدى بوتين.

 

كيف قد تردّ النخب؟

من المنطقيّ تقدير أنّ النخب الأمنيّة والماليّة ستحتاج إلى فترة للخروج من حالة الصدمة. في غضون ذلك، ستتّجه أنظارها إلى أوكرانيا لمعرفة مدى إمساك بوتين بزمام الأمور. إفشال الهجوم الأوكرانيّ المضاد سيعدّ انتصاراً له. المشكلة أنّ الأوكرانيّين بدأوا باختراق الخطوط الدفاعيّة في زابوريجيا وهم يقتربون تدريجيّاً من توكماك ممّا يعرّض خطوط الروس اللوجستيّة في الجنوب للخطر.

قد تضغط النخبة الأمنيّة على بوتين لإعلان تعبئة ثانية. الأولى كانت فوضويّة وأدّت إلى تراجع موقّت في شعبيّته. لا ضمانة في أن تمرّ الثانية بهدوء مماثل خصوصاً إذا كانت تعبئة عامّة لا جزئيّة. سيكون بوتين قد كسر قاعدة حكم ثانية في مسيرته السياسيّة: عدم اعتراض الروس على سياساته وحروبه الخارجيّة مقابل ألّا ينقل تأثيراتها وأعباءها إليهم. علاوة على ذلك، ستكون الانتخابات الرئاسيّة الروسيّة قد اقتربت. لن تعني التعبئة خسارة بوتين للانتخابات، لكنّ تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات أو نسبة التصويت للرئيس ستعدّ بمثابة خسارة، أو ضعف في صورته.

وتراجعُ بوتين عن فرض هذه التعبئة بالرغم من الحاجة الميدانيّة إليها سيضعه في موقف صعب أمام النخب. بهذا المعنى، إنّ التخلّص من بريغوجين، وحتى من قدرة "فاغنر" على التمرّد مجدّداً ضدّ الكرملين، لن يترادف مع نهاية المشاكل بالنسبة إلى الكرملين. سيسير بوتين على حبل مشدود؛ وكذلك المقرّبون منه. السقوط في روسيا نادراً ما يكون غير مؤلم.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم