الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2022 (1/3): بين ليلة 21 نيسان 2002 وحرب أوكرانيا

المصدر: "النهار"
ماكرون يشاهد مقابلة لمنافسته لوبن قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية (أ ف ب).
ماكرون يشاهد مقابلة لمنافسته لوبن قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية (أ ف ب).
A+ A-
ميشال أ. سماحة

تأتي الانتخابات الرئاسية الفرنسية في لحظة تاريخية حساسة. فالرئيس إيمانويل ماكرون، بانتخابه في عام 2017، كسر هيمنة الأحزاب التقليدية للجمهورية الخامسة، ووعد بتجديد الحياة السياسية الوطنية وتحديث المؤسّسات وإطلاق النموّ الاقتصادي. بعد خمس سنوات، يبدو أن الظروف لم تساعده كثيراً، فضلاً عن الأخطاء التي وقع فيها نتيجة صغر عمره وخبرته المحدودة، وهو الآتي من عالم المال والمصارف مع مرور سريع على رأس وزارة الاقتصاد في عهد الرئيس فرانسوا هولاند. فبين إدارة ملف خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، إلى أزمة السترات الصفراء، إلى حريق كاتدرائية نوتردام في باريس، إلى أزمة جائحة كوفيد وتبعاتها السياسية والاقتصادية، إلى المشكلات مع المؤسّسة العسكرية، وصولاً إلى حرب أوكرانيا، لم يستطع الرئيس ماكرون أن يحقق الكثير على المستوى الوطني كما لم يستطع أن يربح قلوب الجزء الأكبر من الفرنسيين.

منذ ليلة 21 نيسان 2002، حين تأهلت الجبهة القومية (أو الوطنية Le Front National) بزعامة جان ماري لوبن إلى الدور الثاني بوجه الرئيس شيراك، وعامل الخوف هذا يحدّد مجريات الانتخابات الفرنسية وخيارات التصويت لدى الناخب الفرنسي. فهذا الأخير أصبح، منذ الدور الأول، يصوّت تصويتاً مفيداً Vote Utile يهدف إلى استبعاد اليمين المتطرّف. هذا ما ساعد نسبياً المرشّح ماكرون سنة 2017 على الوصول إلى الدور الثاني وفوزه أمام مارين لوبن، خاصّة بعدما أعطت استطلاعات الرأي خلال الحملة الانتخابية تراجعاً مخيفاً لأكبر حزبين حاكمين، الجمهوري والاشتراكي.
 

عندما وصل إيمانويل ماكرون إلى سدّة الرئاسة، وأعطى الشعب الفرنسي أكثرية نيابية لحزبه LREM، شكّل حكومة وسط تمثل فيها اليمين واليسار والخضر وشخصيّات من الوسط التقليدي. اعتُبر انتصار الرئيس الشاب مخرجاً من ثنائيّة الحزبين، بعد فترة طويلة من الفشل. ولكن سرعان ما بدأ يظهر عمق الأزمة السياسية مع اضمحلال دور الأحزاب والنقابات وتراجع قسمة اليمين واليسار، التي هيكلت الحياة السياسية لعقود. أمام هذا الواقع، ومع تسارع الإصلاحات، انفجرت انتفاضة السترات الصفراء، ولم يكن هناك إطار حزبيّ أو نقابيّ ليؤطرها في حركة سياسيّة إيجابيّة. واستمرّت الأزمات تتوالى وصولاً إلى حرب أوكرانيا خلال الحملة الانتخابية الجارية حالياً.

فالسنوات الخمس من رئاسة ماكرون انتظمت بديناميّتين، تتأثر الواحدة بالأخرى، وهما: أولاً، دينامية الأزمات وإدارة الحكم، وصعود المعارضة بوجهه يميناً ويساراً، فأدّى كلّ ذلك إلى إضعاف رئيس وزرائه الأوّل. وثانياً، دينامية إعادة تشكّل الحياة الحزبيّة والنقابيّة من دون نجاح كبير يُذكر. فالانتخابات الأوروبية في 2019، والانتخابات المحليّة في 2020، وانتخابات المناطق والأقاليم في عام 2021، أظهرت جميعها حجم تراجع التصويت، وعدم قدرة حزب الرئيس على الاستفادة من وجوده في السلطة لكي يثبت قواعده في المناطق والمدن. صحيح أن كلّ استطلاعات الرأي حالياً تعطي الرئيس ماكرون أعلى نسبة من التصويت (وهي زادت مع حرب أوكرانيا) مقارنة بخصومه، إلا أن هذه الثقة لا يُمكن تجييرها بسهولة لحزبه في أيّ معركة انتخابيّة مستقبليّة.
 

صحيح أن الحزبين التاريخيّين لليمين واليسار، الجمهوري والاشتراكي، ما يزالان ضعيفين نسبياً، ولم يستطيعا تخطّي أزماتهما، لا على مستوى القيادة، ولا على مستوى وضوح البرامج، إلا أن أحزاباً أخرى صغيرة استفادت من هذه الضعضعة، وطرحت نفسها الخصم الرئيسيّ للرئيس ماكرون؛ وهي أحزاب على يمين اليمين ويسار اليسار، وحتى على أقصى اليمين واليسار. فحزب الخضر أصبح لاعباً أساسياً في الحياة السياسية الفرنسيّة بعدما كان دائماً ملحقاً بالحزب الاشتراكي، والتجمّع الوطنيّ أصبح أقوى، وأفكار اليمين المتطرّف تجذّرت أكثر في المجتمع، ممّا سمح بدخول مرشّح جديد لمارين لوبن هو إريك زمور، بالإضافة إلى حزب "جون لوك ميلونشون" الآتي من الجناح الماركسّي للحزب الاشتراكي. لكنّه هذه المرة بغياب التحالف مع الحزب الشيوعي، بالإضافة إلى أحزاب التروتسكيين وشخصيات يمينية تستدعي الديغولية وعالم الريف.

في بداية الحملة الانتخابية، كانت الإحصاءات تشير إلى إمكانية كبيرة لتكرار نفس سيناريو الانتخابات السابقة وفوز الرئيس الحالي أمام لوبن في الدور الثاني، بالرغم من ضعف وفشل سياسات ماكرون في أكثر من مجال، خاصّة الفشل النسبيّ على المسرح الدولي (مالي، لبنان، وأستراليا، وحتى مع روسيا قبل انطلاق الحرب). دخول إريك زمور في السباق الانتخابي، والصعود التدريجي لميلونشون، خلط الأوراق، وأعاد بعض الحيوية إلى الانتخابات. حتى اللحظة التي سبقت الحرب الأوكرانية (وحتى قبل إعلان الرئيس ترشّحه) كان هناك خمسة مرشّحين على اليمين، وستة مرشّحين على اليسار، وكان أيّ تحالف بينهم قادراً على منافسة الرئيس جدّياً، ولكن ذلك لم يحدث. سنعود إلى هذه الديناميات في المقال اللاحق.
 

لكن رئاسة ماكرون للاتحاد الأوروبي، واندلاع حرب أوكرانيا، قلبا المعادلات رأساً على عقب. الخوف الذي شعر به الناخب الفرنسي جعله ميّالاً أكثر إلى الاستقرار، وإلى الحفاظ على علاقات جيّدة مع الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي بوجه روسيا بوتين. كلّ ذلك لعب لمصلحة الرئيس، وضدّ يسار اليسار ويمين اليمين، الذين كانوا أقرب إلى بوتين، مع خروج فرنسا من الأطلسي وإعادة استقلالية الجمهورية (ولو بدرجات مختلفة) من سطوة الاتحاد الأوروبي.

من هنا، يمكن القول إن الحملة الانتخابية الحالية مرّت بثلاث محطات. بداية مع سيناريو كان يهدّد مستوى المشاركة بإعادة نفس مبارزة الـ2017، وبعد ذلك خلط الأوراق مع دخول زمور إلى السباق، وصعود تيّار أقصى اليمين ويمين اليمين، وبعد ذلك تغيّر المشهد الانتخابي مع بداية حرب أوكرانيا.

في كلّ هذه المحطات كانت استطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى تقدّم الرئيس (نحو 26%) على كلّ منافسيه. ولكنّها كانت تشير أيضاً إلى أكثريّة ضدّه، تتوزع بين التشكيلات اليساريّة واليمينيّة، من دون أن يكون بمقدورها التحالف لربح الانتخابات. وقد يكون هدف "زمور" المُعلن في بداية ترشّحه، وهو تفادي دور ثانٍ بين ماكرون ولوبن معروف النتيجة، غير قابل للتحقّق خاصّة مع تراجعه الكبير. وهنا نعود مجدداً إلى تروما ليلة 21 نيسان 2002 ومأزق الحياة السياسية التي تمرّ بها الجمهورية الخامسة منذ ثلاثة عقود.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم