الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

نافذة أوكرانيا

المصدر: "النهار"
من استقبال الطلّاب اللبنانيّين العائدين من أوكرانيا في مطار بيروت (مارك فيّاض).
من استقبال الطلّاب اللبنانيّين العائدين من أوكرانيا في مطار بيروت (مارك فيّاض).
A+ A-
د. قصي الحسين*


كان أخوتي يكبرون. وكان أولادي يولدون. تباعا كانوا يكبرون. وتباعا كانوا يولدون. كنت أنظر حولي في أعوام حرب العشر سنوات(1982-1992) بلبنان، أبحث عن أمل . أبحث عن نافذة. أخوتي وأولادي يتقدمون. وجحيم الحرب لا زالت مستعرة. تخبو حينا، وتشتعل حينا، منذ العام 1967. العام الذي أسموه عام النكسة.

كنت أتطلع إلى نافذة مفتوحة لنا. لأخوتي ولأولادي معا. أستطيع أن أخرجهم منها: من جحيم الحرب إلى نعمة العلم. لأن الحرف كانت أتلفت الدفاتر وأغلقت المدارس. كنت أتنسم أخبار الذين إختاروا نافذة، وخرجوا منها بيسر، لطلب العلم. كنت أريد أن أقف على تجربتهم، قبل أن أدفع بأخوتي وأولادي إلى هذة النافذة أو تلك. إلى هذة التجربة أو تلك.

كانت النافذة إلى أوكرانيا، أمام الطلاب اللبنانيين أسهل النوافذ. يتسجلون بإفادة. ويتسجلون بشهادة. بلا إمتحان قبول. وبلا دفتر علامات، لا للشهادة ولا لسنوات الشهادة. ولا لأنواع الشهادات في البكالوريا اللبنانية.

وكنت إلى ذلك أقابل بين النوافذ: أريد نافذة لأخوتي وأولادي. بلا شبك حديد. وبلا منخل. وبلا حاجز خارجي. أريد نافذة لهم تفتح على مصراعيها لهم، ما أن يقفوا عليها، مثل الطير. ثم يطيرون ويقعون على الجامعة التي يريدون. وعلى الإختصاص الذي يطلبون، بأقل كلفة ممكنة. يطلبون العلم فيها بأية لغة يريدون. ويعيشون بين أروقتها وفي "السكن الطالبي"، وفي المدينة وقي الشارع، ومع الناس من كل الألوان والأجناس، وكأنهم في بلدهم الأم. فما إجتمع الرأي عندي، إلا على "أوكرانيا".

كانت النافذة الأوكرانية هي أسهل النوافذ لطيران إخوتي وأولادي، للتعلم فيها. كنت أسأل عن المدن الجامعية فيها. وعن الجامعات الوطنية وعراقتها. وعن الإختصاصات التي توفرها. وكذلك عن كلفة التعلم. وعن كلفة السكن والعيش للطلاب فيها. كنت أسأل عن الجم العام. عن الحريات العامة. عن الإنضباط. عن الدولة. عن النجاح في الإمتحانات. كانت كل الأجوبة التي أسمعها من اهل التجربة، مشجعة للغاية. كان أهل التجرب من الطلاب وأهلهم، يتحمسون للدفاع عن أوكرانيا: جامعات، ودولة، ودورة حياة عامة.

كانت "كييف"، هي أشهر مدن العلم في أوكرانيا. كانت درة المدن الأوكرانية. وكانت الجامعة الوطنية بكييف، هي من أشهر وأعرق الجامعات الوطنية في "كييف" وفي أوكرانيا..

كانت الحرب شديدة الوطأة على لبنان العام1988، حين عزمت على أن يطير أخي إلى "نافذة أوكرانيا"، لطلب العلم. كان تكت الطائرة "الناولون" زهاء الخمسين دولارا من بيروت إلى كييف ذهابا وإيابا. وكان تكت الطائرة من مطار الشهيد رينيه معوض شمالي طرابلس، إلى بيروت، زهاء الخمس والعشرين دولارا، ذهابا بلا إياب. كان" الفواييه": بأقل من مئة وخمسين دولارا لعام دراسي كامل. وكانت المصروفات الشهرية الطالبية على الطعام والشراب والنقل، ب"الملاليم".

في أيلول1988، أخذت بيد أخي. تطلعنا معا إلى "النافذة الأوكرانية" وطار إليها لطلب شهادة الهندسة. كانت هذة التجربة الأولى عندي، من خلال أخي. كنت خلال سنوات دراسته، أتعرف إلى أوكرانيا، شيئا فشيئا. كان يحببني بها. كان دوما يقول لي: الناس في أوكرانيا طيبون، مثل الناس في لبنان. ولكن اللعنة، لعنة السياسة، مثل عندنا في لبنان. كان يقابل "يومياته" هناك، ب"يومياته" في لبنان، فيقول ويكرر: كأنني بين أهلي. لا أشعر بالغربة أبدا. لا أشعر بالضائقة الحياتية. لا أشعر مطلقا بالمضايقات، التي كثيرا ما يشكو منها طلاب الجامعات في أي بلد من بلدان العالم. كانت نسائم الحريات، تملأ أروقة الجامعات، بلا فوقية ولا حزبية ولا طائفية ولا عنصرية، ولا فوارق طبقية.

أنهى أخي إختصاصه وإستقر في "كييف". أنشأ عائلة له. وأصبح من أهل التجارة والزراعة والأعمال. فأوكرانيا كما لبنان، ترحب بكل من يشتغل فيها. بكل من يستثمر في جميع حقولها. وفي جميع قطاعاتها. وكان كلما نشدته أن يعود إلى لبنان، تفتح في وجهه النيران. ونرى لبنان، مشتعلا، لا يطفأحريق، حتى يشب فيه حريق من جديد. فإتخذ أوكرانيا وطنا. وإستقرت به النوى. وتصالح مع نفسه، ومع شوقه لأهله، لنا. تصالح معشوقه للوطن. واما أنا فتصالحت مع الوضع: صار لي بيت في كييف وإذا ما سئلت عنه كنت أجيب السائلين: أنه في شرق لبنان. فهو لا يبعد عن بيروت أكثر من ساعتين. وكانت طائرة "الأخوين مرهج"، تمحو زهق النفس، في طول المسافات.

لم تمض سوى بضع سنوات، حتى كنت أعد أولادي واحدا بعد آخر للرحلة في طلب العلم نافذة أوكرانيا. منهم من كان يختار "كييف"، ليتعلم الطب باللغة الروسية. ومنهم طلب الصيدلة باللغة الإنكليزية في المدينة الجامعية في مدينة اللفوف، غرب البلاد. ومنهم من طلب خيركوف، في شرق البلاد، لتحصيل علومه الطبية. توزع أولادي في أوكرانيا كلها لأكثر من إثني عشر عاما. كانوا يملؤون أوكرانيا مع الاعمام وأبناء الأعمام وزوجات الأعمام. وكانوا مثل أخي، يشيدون بهذا البلد النظيف المضياف. كانوا يشيدون بعلم أساتذتهم وبعراقة جامعاتهم. وبنظافة "السكن الطالبي".

توزع أولادي وأخوتي، في شرق أوكرانيا وغربها ووسطها. كانوا يصفونها بأنها بلاد مرسومة رسما. بلاد إشتغل فيها المهندسون والتشكيليون، حتى جعلوها، آية في النظافة والجمال. كان يصفون كييف، بأنها "مدينة في حديقة". عاصمة حديثة في حديقة. وذلك لعظمة الحدائق فيها. كانوا يتحدثون عن أشجار الجوز والتفاح والخوخ والمشمش والدراق والكستناء فوق طرقاتها.

سنوات طويلة عشتها في أوكرانيا، من خلال عيش أخوتي لعشرة أعوام. وأولادي الذين لحقوا بهم لإثني عشر عاما. وكذلك لعيش أحفاد أخوتي في أوكرانيا. وكنت أتشوق لزيارتها لشدة وصفها لنا. ولكني أكتفيت بالزيارة العقلية، عن الزيارة الواقعية، إيفاء لطلباتهم الضرورية، لتحصيل علومهم. والإنفاق على العلم، بكل ما ملكت يميني.

غادر أولادي أوكرانيا. جلا عنها آخرهم، في العام2012. وبقيت لهم فيها أجمل الذكريات. وأما أخوتي، فآثروا أوكرانيا، لإتخاذهم بيوتا وعائلات. هجرتهم حروب لبنان إليها. كانت أوكرانيا نافذة جميلة لهم. وها هي النافذة الجميلة تتحطم تحت أعينهم. تتحطم تحت أعين أخوتي وأولادي، وتحت عيوني التي سمعت عنها. و ما شاهدتها. "والأذن تعشق قبل العين أحيانا."

أوكرانيا الحرب الغشوم. أوكرانيا الحرب المشؤومة: هي بالنسبة للبنانيين جميعا، تحطم نافذة. ولذلك هم اليوم في الساحات مع أهلهم يجهشون في البكاء عليها. بل لمما يدمي قلوب اللبنانيين عليها. كانت نافذة أوكرانيا، نافذة اللبنانيين لطلب العلم. أولئك الذين خرجوا بلا علم من لبنان بسبب الحروب. وعادوا يحملون من نافذة أوكرانيا الشهادات العالية: في الطب والكيمياء والفيزياء والهندسة.

خسارة لبنان عظيمة بإحراق أوكرانيا. بإحراق نافذة اللبنانيين، في عقود الحرب اللبنانية. بإحراق نافذتي. نافذة إخوتي. نافذة أولادي. نافذة الأحفاد. عنيت: "نافذة أوكرانيا".


*أستاذ في الجامعة اللبنانية
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم