الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

هدى رزق حنّا: رواياتٌ لمجتمعٍ آخر

المصدر: "النهار"
غلاف الكتابين.
غلاف الكتابين.
A+ A-

الدكتور ربيعة أبي فاضل

صدر للدكتورة هدى رزق، عام 2010، كتاب في نقد الرّواية والشّعر بعنوان:”Petites Clefs Pour Grandes Oeuvres” مع مقدّمة لليليان سويدان، لحظَت فيها مدى عمق ثقافة الكاتبة، وشغفها بالقراءة والإبداع. ثمّ أصدرت رزق كتابها الثّاني، عام 2021، بعنوان:“DesRomans et des Causes”، عن دار سائر المشرق، في حين كان الأوّل صدر عن دار المشرق. في الثاني، درست أربعة روائيّين لبنانيّين هم هدى بركات، جبور الدّويهي، دومينيك إدّه، وشريف مجدلاني، والروائيَّين الفرنسيَّين ماتياس إنار وسيلفي جارمان.

توقّفت الباحثة على فضاء الرّواية، بأبعادها الزّمكانية، وبأحداثها، وتفاعلاتها، ومنظوراتها، أو مواقفها منَ الواقع المَعيش، والمُنتَظر المثال. ونجحت من خلال البنية السّردية في اكتشاف حال الرّؤية والخطاب، موظّفةً الصور، والإيقاعات، والثنائيّات الضّدّيّة، والرّموز، لتوضيح  الرّسالة الاجتماعيّة، والإنسانيّة، التي يحملها النصّ الرّوائيّ، والفكر الجديد المؤثّر في تحوّلات الحياة وأنماطها.

وقد اتّسمت قراءتها ومقارباتها بالبرغماتية، أي بربط اللغة الرّوائيّة بسياقها المرجعي، وبالشّخصيّات، وتواصلها بعضها مع بعض وبالخطاب وديناميته وتنوّعه. فالنّصوص الرّوائيّة، بالنّسبة إليها، إنّما تتضمّن واقعات اجتماعيّة، وأفكاراً مختلفة، لمجموعة من البشر يتعايشون ضمن أوضاع اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، لا تخلو من المفاجآت والصّدمات... والأحلام! ولأنّ الرّوائي يخلق من الجاهز الجمال، ومن الفاني الخالد، فهو يطمح إلى عدم نسخ الواقع بل إلى فهمه لتخطّيه، ونقده لبنائه،عبر الحدس الخلّاق، والوعي الصّانع. في هذا المقام، تُعيد البنى السّرديّة إنتاج واقع الواقع، وفقاً لنظريّة بيير زيما.

هكذا أحسنت الكاتبة، وهي قارئة مُمَيّزة، في ربطها البنية السّرديّة بالبنية الاجتماعية، بالتأويل الذي يحتاج إلى فطنةٍ عالية. فرواية شريف مجدلاني "Villa des Femmes" أعادت التّفكير الجدّي في مآسي الحرب داخل لبنان كما عايشناها في السّبعينيات وما بعد، وبالدّور الفلسطيني السلبيّ في تغريب المكوّنات اللبنانيّة بعضها عن بعض، وأهمّيّة استخلاص العبر، وعدم تضييع الفرص. وليست رواية جبور دويهي "Pluie de juin" ببعيدة عن هذه الجِواء، كونها تسترجع زماناً حدثت فيه مقتلة في كنيسة، انسياقاً وراء زعماء همّهم نفوذهم، وتسلّطهم على قطيعٍ تخلّى عن فكره وحرّيّته وقيمه، وصفّق للدّماء!  والرّوايتان تَحثّان على التعرّي من هذا التخلّف، في وطنٍ لا يستحقّ كلَّ هذا الجهل.

وكان طموح هدى بركات في "Courrier de Nuit" ملاحقة مشكلة المهاجرين من بلدانهم إلى الغرب. أطلعت القارئ على دوافع انقلاعهم من جذورهم، وعلى الظلم والفقر والاستبداد... وتتبّعتهم في ضياعهم، وغربتهم، وخروجهم على كلّ القواعد، والأصول. ولا يختلف فضاء دومينيك إدّه في "Le cerf-volant"، بخاصّةٍ من حيث الأبعاد المأسويّة لأزمة الشرق الأوسط، وانعكاس ذلك على لبنان والعائلات، وجبه مشكلات متراكمة ومتناقضة وموجعة على صعيد الفرد، والعائلة، والبلاد، والتقاليد، والحداثة.

وما يشكّل لحمة جوهريّة بين الرّوايات المختارة، وجميعها تسعى لكشف الأمراض بغية معالجتها، فكرة أنّ العالم ينهار من حولنا، ووحده الفنّ بكلّ تنوّعاته ينقذنا، ويحول دون اكتمال النهاية المأسويّة. قرأنا (ص: ١٠٤- ١٠٩) “Le monde est devenu invivable...C’est à l’art que l’écrivaine confie la mission de changer l’ordre des choses dans ce monde.”

وفي الرّوايتين الفرنسيّتين نجد الحاجة المُلحّة إلى إحلال مجتمع النّصّ، بدلًا من نَصّ المجتمع المُشَوّه. فجيل الشيخ نور الدّين التّكفيري، المتطرّف، برهن عن عدم كفاءة فكريّة وروحيّة واجتماعيّة لمعايشة عصر جديد.

أفكار الشّيخ يجب أن تتبدّل، وهو غير مؤهّل لذلك، لأنّ قيم احترام الآخر، وكرامته وحقّه في الحياة، لم يتعلّمها في أدبيّاته، ما شكّل خطراً على أتباعه وبيئاتهم. ولم نُفاجَأ بقدرة القارئة، خرّيجة باريس، والزّمان الخصب، في غنى التّأويل لديها وعمق التحليل النّفسي والاجتماعي، ورؤية الدلالات البعيدة في القمر، والعصفور، والخزامى، والبحر، والشمس...وغيرها من العناصر. فذكّرتنا بباشلار، ومهارته، وسعة علمه، وخياله. نخرج من الكتاب ونحن نتأمّل في قول البطلة ليلي باربرا:“Combien est ample, inépuisable, le mystère d’une vie!”

هذه القارئة، النّاقدة، الأستاذة الجامعيّة، والشّاعرة المُقلّة، والإنسانة المُبدعة، تنضمّ إلى روائيّين، وروائيّات، وشعراء مبدعين، ليس لتردّد ما قالوا بل لتقرأ ما هو غائب، ولتُشير إلى ما يجب أن يكون، سواءٌ من حيث البنية أو الخطاب، أو الفضاء عموماً. ولا شكّ في أنّ تعاطفها مع المبدعين وشخصيّاتهم هو الذي حداها على إحياء عوالمهم النّصّية، والفكريّة. وفي ظنّنا أنّ هدى رزق ستفاجئنا برواية من حديقتها الخاصّة، تمثّل أسطورتها الذاتيّة، وحبّها للنحت، والسينما، والشعر، والرواية، والموسيقى... وكلّ ما يُنسينا جهنّم أبناء الظّلمة.

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم