الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

"العيش سريعا" لبريجيت جيرو جائزة غونكور 2022: فوق حبلٍ متين من رهافة الإحساس

المصدر: "النهار"
"العيش سريعاً".
"العيش سريعاً".
A+ A-
غسان الحلبي
 
 
وقَّعت بريجيت جيرو عقد بيع بيْتها. كانت قد استملكته مع زوجها كلود منذ عشرين سنة. كان حلماً أن تلاقي فسحة في المكان من منزل صغير وأرض مهمَلة يمكن أن تصير حديقة. ثـمَّ دهمها الوقتُ بفظاظة: هواجس التصليح، حادث درّاجة ناريَّة أودى بكلود المحبوب، وطأة الانتـقال، جنّاز للشّريك الذي أنجبت منه ولداً. "التسارع الأكثر جنوناً في حياتي". كلّ ذلك يحضر في خواطرها الآن، ليس في صورة مأساة لم تغب، بل بحالها صارخة من داخلها في مواجهة القدر: أنا امرأة "أذهلها الحزن، نعم. أرملة، لا".

قاومَت التوقيع طوال شهور. خلال كلّ تلك السنوات صار البيتُ "شاهداً على حياتي من دون كلود". تتذكَّر جيرو من عواصف تلك الأيَّام الصّعبة أنَّها مضَت في ترميم البيت وكان شبه خربة "عليَّ أن أتعلَّم سكناها". كانت في ذروة غضبٍ عميق لم يتبدَّ من ظاهره سوى القوَّة التي استخدمت بها المطرقة الثقيلة لهدم بعض الحواجز الاسمنت داخله.

استولى على انطباع الدخول في ورشة تجديد المكان، شعورٌ بالتحطيم والتخريب وإعلان الحرب على كلّ ما يقفُ أمامها من جصّ وحجر وخشب ومواد يمكن إتلافها من دون إمكان الزَّجّ بها في السّجن. كان ذلك "ثأري الضئيل إزاء القدَر. أن أطلق صرخات حين أقتلع الخيش القذر، أو حين أحطِّم بعض النَّوافذ...". كلّ ذلك لغاية الاحتفاظ بشرنقة مأوى في قلب الفوضى، ينامُ ابننا فيها بأمان. وسائد ناعمة، رسومات فوق السرير، موكيت سميك، دثار يقينا من الخوف ومن أشباح الليل.

بهذا الإيقاع الواقعي الحميم في حدّ إنسانيَّةٍ مُرهفَة، تمضي جيرو في بوحٍ تلقائيّ بالغ الحساسيَّة والاتّزان فوق ألَمٍ مألوف، مستحضرةً ما اختمرَ في وجدانها وقلبها وعقلها. وكانت في سياقِ تشبّــثها بما تحبّ، أدركت ذات يوم أنَّه لم يعد في وسعها أن تقول 'ابنـنا'، في حين كان "عليَّ أن أتعلَّم قول كلمة 'ابني'. كما أنَّه يجب عليَّ قول 'أنـا' عوض المراوحة في قول 'نحن'... هذه الـ'أنـا' التي تخدشني، والتي تشيرُ إلى هذه الوحدة التي ما أردتها، وإلى هذا الإخلال بالحقيقة...". أدركَتْ، من ثَمَّ، في اللحظة الفاصلة، أنَّ هذا المنزل الَّذي تتخلَّى عنه أخيراً بات "شاهداً على حياتي من دون كلود". مع هذا، بل بالرغم من كلِّ هذا، شعرَت أمام ظلال الحطام بأنَّها تبيع الآن روحها "وربَّما روحه" أيضاً.

جالتْ جيرو بأفكارها حول السؤال مرَّة أخيرة كما جالت بنظرها في دقائق المكان قبل أن تقفِل البابَ نهائيّا، وفي ذهنها أنَّ هذا البيتَ الذي تغادره كان في صميم التداعيات التي انتهت بالحادثِ المفجع. استعادت ما كان في خيال العائلة من الإمكان الحاضر "باحتكار فنّ العيْش. فقد توهَّجت طاقتنا بولادة طفلنا. كنّا أناساً رائعين ذوي ثقة بأنفسنا. يمكنني الجزم هنا بأنَّها كانت حياة كاملة. بقيت كذلك طوال عشر سنين".

تساءلتْ عمَّا دفعها آنذاك إلى الرغبة في تغيير شيء ما في هذا التوازن "لأنَّ فكرة الانتقال والمبادرة إلى الحركة والبدء من جديد.. كلّ ذلك جاء منّي. استحضرتُ مقياس المضيّ قدُماً في طلب الكمال في خضمّ هواجس الإقامة طالما أنَّ الأمرَ مُتاح". وتستطرد جيرو في هذا الاستبطان المرهف لتقف (ربّما) على الفكرة التي يمكن أن تكون مفتاح فهم ما قامت به وتقوم به الآن: "في هذه الفترة الفاصلة في حياتي شرعتُ في الكتابةِ، في هذا الوقت من الكمون والشكّ، حيث كان ثمَّة بُعـدٌ مفـقودٌ، في اعتقادي، للوجـود".

عند هذا الحدّ، تقفُ الكاتبةُ الآن (كأنَّها) لتكسر سياقَ السَّردِ تحت عنوان "لَـــوْ". تراها تثبت لائحة بأسئلة متغلغلة في دقائق الحادث الذي تسبَّب بمقتل كلود، ما جرى قبله وأثناءه وحواليه. كلّ تفصيل يولِّد سؤالًا بدءاً من "لو" متعلّقة بالأشخاص والأمكنة وذوي العلاقة بكلود في أيامه الأخيرة وخصوصا ما كان يمكن أن يكون له أثر في مسبّبات الحادث القاتل ومسار حدوثه. بعد ذلك تستكمل روايتها بفصول متتابعة تحت الأسئلة المرقّمة في اللائحة لمعاينة مؤشرات غامضة. درب شائكة محاطة بمزالق دروب متعدّدة يمكن أن تكون درب أورفيوس، أو أن تكون معارج تحقيق جنائي، أو سرديَّات أوستريَّة في إمكانات الحدث المتولّد من محض العَرَض والمصادفة، أو تساؤلات خاض فيها فلاسفة في مسائل القدَر والوجود والكينونة. لكنَّ جيرو قطعت محنتها بالسير فوق حبل متين من رهافة الحسّ بإيمان "امرأةٍ أذهلها الحزن" دون أن تفقـد أبداً من قلبها قيمة الحبّ الذي عرفته منذ ثلاثين سنة.

كانت جيرو قد سردَت صورة حياتها إثر الحادث في كتاب صدر عام 2001 بعنوان "À Présent" "بكلمات عادلة وواضحة تمنح قصّتها قـوَّة وحقيقة إنسانيَّة مؤلمة". الآن، بعد كلّ هذا الوقت، تروي في الحقيقة كلّ المقدّمات الوجدانيَّة، بالكلمات العادلة إيّاها، بالحميميَّة المغمورة بحبٍّ راسخ، ما هو لائق بلحظة وداع آن أوانها بحُكم قوَّة الحياة ذاتها. عبر تلك السنوات التي عاشتها في "بيتهما" شعرَتْ ذات مرَّة على حدِّ قولها أنَّها "صارت المرأة والرَّجُل" في آنٍ واحد. ولكن، "لا شيء الآن لكي نفهمه.. ما من ( لَـوْ)" لتتصدَّر أيّ سؤال.

"مرَّت عشرون سنة، عليَّ أن أحسمَ أمري وألقي السلاح. أن أتركَ البيْت يعني أن أسمحَ له بالرَّحيل"، تكتب جيرو في نهايات كتابها. "الطبيعة التي تحيط بي ستتحوَّل إلى إسمنت، ويختـفي المشهد الجميل...".

وداع تحفّه الكلمات في سموٍّ إنسانيّ يحمل معانيه من صدق الداخل من دون ادّعاء أو تكلُّف أو انزلاق إلى كواليس "القضايا". وما يُسمَّى "الحميميَّة" في مواسم الأدب الفرنسيّ المعاصر يذهب مذاهب شتَّى في البوح والإفشاء وكسْر "الأوميرتا"... ميزة جيرو أنَّها سمَت بالحميميَّة إلى ما هو أقوى بلطفه من انكسار النفس وتصدّعاتها. ذلك يُعزى إلى ما عبَّرت عنه بقولها: "يعتمدُ كلّ كتابٍ من كتبي على أمر ما عكَّرَ إحساسي بالعيش، وأربكَ حالي، أو منحني شعوراً بفائض الحياة. يحدثُ أن تُصاب بما يتجاوزكَ، والكتابةُ هي وسيلة ملائمة لتفـقُّـد الحال.".


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم