الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

تناغمٌ بين حرفٍ وإيمانٍ ولونٍ في لوحة "الراهب المستقبليّ"

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
تعبيريّة.
تعبيريّة.
A+ A-
حارت الألوان في لوحة "الراهب المستقبليّ" لـ(بلسكي نيكولاس بيتروفيتش)، بين صمت العيون الصغيرة التائهة في حقيقة الحياة، ولهفة الراهب الذي حصل على صيدٍ ثمينٍ لاستمرار رسالةٍ نذرَ نفسه لها.
 
الفتيّ يستمع ببساطة إلى الصمت الّذي لا يمكن كسره إلّا بهمسات الروح، وصراخ المعذّبين. فها هو ينظر إلى العالم بعين الله، وقد وضع نفسه في سلامٍ مع الإيمان، وشرد شاعرًا في وجود الرهبة القادمة.
 
هذه الرهبة ليست وليدة عِظة راهب متأهّب دومًا، رابطٍ جرّابه بكتفيه، مصطحبٍ معه قدحه، وكأنّه أنهى الكلام مستمعًا إلى صمت المراهق الذي يردّده صدى الأديرة، بل هي حصيلة تربية والِدَيْن عشقا الطبيعة وكانا راهبَي عطاء دائم.
 
هل التربية الحسنة وحدها كافية لصنع رهبانٍ قدّيسين؟ أو أنّ الصوت القادم من السماء، والهادر في صمت صِوانات الصغير مناديًا إلى "وليمة الحمل"، هو المسؤول عن اختيار مسارٍ لحياة "الراهب المستقبليّ"؟
 
الحيرة بادية بوضوح على الراهب المتأهّب؛ هل يقاطع حلم اليقظة عند المتلّقي، وهل فَعَل كلامه فعل هداية من إرشادٍ؟ لكنّ الحيرة الكبرى باديةٌ على حركة إصبعه التي تترافق مع عينَيه المتسائلتين عن مضمون الأفكار التي تراود المراهق الصغير. فالّلوحة تتنفّس هذا التناغم الّذي ترجمته قدرة الفنّان على دمج أوّل العمر بآخر الحياة، بواسطة فرشاة يحرّكُها فرح الروح في غياب الفرح الأرضيّ.
 
إذا كان "بلسكي" قد أفرغ الألوان في عيونٍ تائهة، جاعلًا منها مركز اللوحة، فقد رمى على الطاولة عتبَ الكفر على القداسة التي كبّلته بأوتار حناجرَ ترتّل بصمتٍ عظمة حضور الربّ في ساعة الهداية. حتّى خشب المقاعد بدا في حالة انتظار غياب الراهبَيْن المرتقب، قبل ذهاب كلٍّ منهما الى إتمام الرسالة، فقد انحنى خجلًا على أعتاب أحلامهما.
 
يظهر عتاب السرير واضحًا على كتاب بجانب الفتى، حتّى ولو كان الكتاب محجوبًا بجسم الراهب الناشئ، فهذا الكتاب قد سرق هذا الجسد إلى مأوى الروح، وبقي السرير يحلم بطيفٍ مقدّسٍ يقدّم صلاة ما قبل النوم على مذبح الحلم.
 
اشتعلت روح "بلسكي" في مشهد مفعم بالتوق والجاذبيّة، وفيه لمع ذلك البريق اللونيّ الأخّاذ الذي يشعّ في عيون شخوص رسومه، هو الّذي برع في استخدام الفقر الذي يُشعل لوحاته داخل أطرها بوهج لهفة القلوب. فقد رسم لوحته المشهورة "في باب المدرسة" وكأنّه استعار معطف غوغول، لينسج منه قصّة تبيّن الفارق الاجتماعيّ بين التلامذة. إنّ مُشاهد رسومات "بلسكي" يقتفي أثر الخيط الرفيع الذي يربط لوحاته، فمعطف الطالب في لوحة "في باب المدرسة" - حتّى ولو تمنّى مرتديه معطفًا جديدًا كما في رواية نيكولاي غوغول - يحاكي نذر الفقر والطاعة الذي ينتظره "الراهب المستقبليّ".
 
هل يمكننا القول إنّ الرسّامين الروس قد خرجوا من معاطف لوحات "بلسكي": معطف التلميذ الفقير "في باب المدرسة" أو إسْكيم راهب لوحة "الراهب المستقبليّ"، كما خرج جميع الكتّاب والفلاسفة الروس من معطف غوغول؟
 
 
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم