الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

أبجديّة الروح في ديوان "قَبْلِ الوَجَعْ بِشْوَيّ" لزينب حمادة

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-
هل أنّ زينب حمادة هي نفسها في قصائدها وكما تصف نفسها، أم أنّها من خلال ديوانها "قبل الوَجَعْ بِشْوَيّ" تريد أن تكون قويّة، كشجاعة نُبْلِ قصائدها؟
 
متصفّح هذا الديوان، الصادر لدى "دار ناريمان للنشر والطباعة والتوزيع"، وبمردودٍ كامل لصالح حملة "كتاب وقمح" الّتي تُعنى بالمرضى الذين لا معيل لهم، تغبطه الانطباعيّة الروحيّة، الكامنة في القصائد؛ فإذا كانت الانطباعيّة الفيزيائية تعني تفكيك الألوان على اللوحة، ثم إعادة تركيبها في العين، وتبقى اللوحة ممثِلة للجماد، ويدوم روح الجمال الأزليّ في الألوان الممزوجة بعناية، فإنّ زينب قد حرّرت الحروف من المعاني والحكايا، وصاغت القصائد بأبجديّة الروح. فاختلطت على القارئ وسائل تلقّي هذا الفن الجميل وتفهّمه والاستمتاع به؛ هل هذه الوسيلة هي العين أم العقل أم القلب، أم كلّها معًا؟
وهكذا حرّرت الشّاعرة البوح الشّعريّ من جميع اللغات، واستكشفت لهذا النوع من الشّعر لغته الخاصة. وكان هذا حدث بالغ الأهميّة في تاريخ الإنطباعيّة الشّعريّة المعاصرة، لا بالنسبة للشعراء الإنطباعيّين وحدهم، بل بالنسبة لسائر الحركات الشعريّة والمذاهب الفنيّة، والّتي ما تزال تظهر فيها النرجسيّة بشكل فاضح في أغلب الأحيان، في حين تتناغم بسلاسة، من حين إلى آخر، في ديوان "قبل الوجع بشوي".
 
كما نرى في الصفحة ٥٦ -على سبيل المثال لا الحصر- من الديوان: "بعدك عنب.. ما صرت فيي نبيد/ عم يشتهوك (شويّ) عينيّي/ عالدالية... ما بمدّ إيديّي/ ولا بسكر ب رجّال بعدو جديد/ تا عتّقك.. رح إحبسك فيي"، فقد دمجت الشّاعرة العناصر البصريّة في هذه القصيدة مع العناصر التصَوريّة الذهنيّة، مؤكّدة استقلال ما هو حسيّ. وافترقت عن كلِّ شِعرٍ كُتب، واعتمد من كتبه على النزعة التقليديّة. فقد اتّبعت الشّاعرة منهجاً فريداً من حيث إنّها أنشدت التجانس الروحي_البصري الخالص، في حين أنّ كل شعر يرتكز على الانطباعيّة كان يُبنى على نظرة إلى العالم تبدو متجانسة، ولكّنها في واقع الأمر مركّبة على نحو متغاير، مؤلّفة من عناصر تصَوريّة عقليّة أو حسيّة. وهنا في هذا الديوان برزت قيمة جديدة للانطباعية، نتيجة امتزاج بين الفكر والنظر والحس، وأصبح إدراك البوح قابلاً لأن يُشرح بالكلمات ويُفسّر بالعقل ويُفهم بالأحاسيس، في حين أنّ الشّاعرة بنت موضوعاتها الشّعريّة من المعطيات الخاصة للحواس وحدها؛ ومن ثمّ عادت إلى العمليّة النفسيّة اللاشعوريّة وقدّمت لنا -إلى حدٍّ ما- المادة الخام للشعر الّتي هي أبعد عن الإدراك المعتاد لواقع الحواس غير المعدّة للعشق.
 
يقول "فرانكاستل": "إنّ ما يميز الانطباعيّين عن بقية المصورين هو معالجتهم للموضوع من أجل فوارقه النغميّة، لا من أجل الموضوع ذاته". ولعلّه من أجل ذلك، وإن كثرت في الديوان الّلوحات التصويريّة لمشاعر لا يمكن تصويرها إلّا في نهاية بعيدة لمرمى البصر بعد إدراكها بالحاسّة؛ فقد ينسحب هذا القول عن الرسم، على قصائد "الحماديّة"، لأنّها من خلال لوحاتها الشّعريّة من حيث هي بناء روحانيّ، قد اعتمدت على سلّم نغمي روحي في القصيدة الواحدة، مع إيقاع متفاوت في التّلقي، وما ورد في الصّفحة ٧٤ مثال لذلك: "مارق على/ شفافي ألف شيطان/ يدقو ع باب الحرف/ ويفلّو/ ويمكن مرق وجّك/ متل قرآن/ علّم شفافي كيف بيصلّوا".
 
وقد يخطر لنا، أن نتساءل عن المعنى الروحي والإنساني لحركة الانطباعيّة الشّعريّة، في سياق مغامرات الإنسان الدائبة في الحياة والشعر المكتوب باللغة المحكيّة؛ لكن عند قراءة ديوان "قبل الوجع بشوي" نتأكد أن كلّ لوحة انطباعيّة شعريّة جميلة، وردت في هذا الديوان وما أكثرها هي تسجيل للحظة في الحركة الدائمة للوجود، وعرض لتوازن متناغم ومستقر، لتفاعل قوى الإنسان الروحانيّة المتمثلة بالنظر والأحاسيس. فعندما حوّلت الشاعرة الصورة إلى مجموعة من الذبذبات الضوئيّة، لم تعد بها الحاجة إلى الإيحاء بالتكوين الجسماني للحالة الموصوفة، عن طريق استخدام الظلال مثلاً، فلا ظل للأحاسيس، وإن وُجد فإنّة يرتسم على شاشة الروح المجازيّة.
 
قصائد الديوان، مترفة الملامح بذاك الإحساس الفائض من الفرح، فلا هي غابة من دخان قبل مطر عابر، ولا هي عناق آتٍ من وراء الغمام، بل هي قوّة الحبّ الكبير الّتي استمدّت منها الشّاعرة البوح النبيل.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم