الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

العزف الشجي في ريشة طوني مسعد

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
اللوحة.
اللوحة.
A+ A-

حاصر طوني مسعد الأبد بجدارة، وجعله زمنًا خاصًا يختلف عن هذه الأزمنة المستعارة، عندما جعلنا نزور منزل الشاعر إلياس أبو شبكة بالخيال؛ ففي كلِّ نظرة إلى لوحته، نقترب من أزلٍ خطّه أدباء وشعراء من لبنان. فلطالما اخترقت الفنون الأزمنة إلى مستقبل الأرض والبشريّة.

رسمت ريشة الفنّان، عذرية وبراءة "القيثارة" -ديوان لأبي شبكة- التي صدحت دموعًا وآلامًا، وجعلتهما تستيقظان من كرب غفوة الأمس فرحًا، وعزفًا شجيًا صادقًا، بعدما أفرخت الريشة والقيثارة أحزانهما زهوًا جميلًا، في أحشاء نخلةٍ تعملقت وتخطّت إطار اللّوحة. وأفرخت قربها أخرى، منتظرة مع تمثال الشّاعر طيف "غلواء"، هاربًا من ترابط العاطفة والخطيئة في الدّيوان.

 

وكأنّك ترى ذاك التمثال على القماش، متحدثًا صامتًا، فهل أن ألم القلب النابض في الحجر أخرسه، بعد أن تلبّسته أمراض الهوى، وعجز عن بث شكواه، وحامت روحه بألوان العذاب في سحر فضاء اللوحة، مختلطة مع إحساس شعيرات الرّسام؟ وكأنّ صوت الشاعر من الأمس القريب، يسائل الفِراق عن محبوبة محجوبة بديوان "المريض الصامت": "ما جرى للفتاة؟ أين هي اليوم؟ أجبني يا باعث الأوْصاب".

هل صدح صوت ناظم الغزالي عندما غنّى قصيدة "في هيكل الشهوات" مشرعًا شبابيكَ، على فضاءٍ مسحورٍ بألوان ريشة طُربت فأبدعت؟ إذا كانت أفاعي الأرض تفحُّ ف"أفاعي الفردوس" تتمايل بغنج، مُرنّمة للرب، وقد تهادت ابتهالاتها من استدارة طاقتين، ترقبان تتابع الأمواج الأزلي. النقيض الدائم بين الحبّ والخداع، والحياة والموت، في هذا الديوان والّذي سكن روح الشّاعر والمنزل المتحف، كلّلته شعيرات الفرشاة بقرميدٍ، وبإتقان فنّان ساحرٍ رصفت بروعة كلَّ قرميدة بجانب أختها، حيث حلّقت فوقه طيور السنونو، خارج إطار اللّوحة، وتفسّحت في فضاء السطوح التي أزهرت بمواعيد "الحارة".

خرج طيف الشاعر من التمثال، فقد سئم صمت الحجر؛ وكأنّي بالرّسام قد أدخله في خلوة حميمة مع ذاته لا أحد فيها سواه، وجعله يخرج من ضوضاء صمت المتحف إلى فسحة نوافذه، حيث السماء تضيئ الرغبات المتوارية، والشهب عابرة سعيدة في فضاء حضَنَ القرميد، والأفكار تجول وتجول وتتهادى روعة على الورق؛ هل تسمعون صوتَا ينادي "غلواء"، خارجَا من شبابيك فتحها مسعد على المدى وكأنّي به يقول: كوني كما تشائين على حفافي الزمان، وفي سطوة المكان، فقد أصبحتِ روحًا في ديوان؟

صُقلت حجارة مداميك المنزل بغنج الفرشاة، كألبومٍ حيٍّ أحتوى على لوحات شعرية نابضة بالحياة، وكأنّها تقبّل بعضها بعضًا؛ ليس للحجارة أفواهٌ، فالقبلة تسري خلالها كارتعاشة الشفاه، فقد قبّلتها كحلة المداميك، بخليط ساحر من الألوان، كحّلها بها الرسّام. هل الشفاه ارتعشت كحجارة المداميك في قصيدة "أعذب الشعر" ضمن ديوان "نداء القلب"، عندما قال أبو شبكة: "أيَا قبلةٌ مرَّت على ضفتي فمي"؟ وسرت ارتعاشة في أرجاء اللّوحة داخل الإطار.

يأوي الكلام إلى صمته في حضرة الألوان، حيث ينفض الانتظار عن كاهله الأرق الطويل، عند قدوم طيف شارل بودلير، ليعانق فكرًا خارجًا من تمثالٍ كان ينتظره، أمام منزلٍ، وتخرج العصافير من سكينة الصّلاة على سطح قرميده، فتطرب للّقاء، وتذوب خلسة في لوحة، مع حروف قصائد مترقرقة، رسمها طوني مسعد روحًا هائمة في متحفٍ.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم