الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

كانّ ٧٤ - "أسوأ إنسان في العالم": أن تكوني ثلاثينية في عصر التردّد

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
"أسوأ إنسان في العالم" أفضل فيلم في مسابقة كان إلى الآن.
"أسوأ إنسان في العالم" أفضل فيلم في مسابقة كان إلى الآن.
A+ A-
يواكيم ترير يتألق في مهرجان كان (6-17 الجاري) وينال الإعجاب. فيلمه الأحدث "أسوأ إنسان في العالم"، اكتشفناه مساء الأول من أمس في صالة نصف ممتلئة. فانتقلنا حرفياً، رغم التعب، إلى أجمل نقطة في السينما المعاصرة، تلك التي برع فيها السكندنافيون. بعد عشر سنوات على اكتشافنا له مع "أوسلو، 31 آب"، يقدّم خامس أفلامه. 

‎لا شيء عادياً في الفيلم. بدءاً من الكتابة السينمائية، وصولاً إلى الأفكار المطروحة، ومروراً، بالطبع، بالشخصية (التي يحمل الفيلم اسمها بالترجمة الفرنسية لعنوانه الأصلي)، إضافة إلى ارتباطه العضوي بالحاضر. في هذا الفيلم، لا شيء من المستهلَك والمكرّر في الأفلام الحديثة، حتى تلك التي تحاول الخروج من عباءة التقليدية. لا يكتفي المخرج النرويجي الدنماركي بأن يدير ظهره لما هو عادي، بل يصرّ على فيلم يخاصم الزمن ويشاكس كلّ ما يتشكّل منه، وقيمه وأفكاره ومبالغاته وقضاياه ومفاهيمه ودروسه في الأخلاق الحميدة والعيش والنجاح. على هذا المستوى، يقدّم ترير عملاً ممتازاً وممتعاً ومفيداً يحلّق عالياً في فضاء الفن السابع.
 
ريناتا رينسف في مشهد من الفيلم
 
 
‎لا شيء عادياً في الفيلم، لأنْ لا شيء عادياً في يوليا (ريناتا رينسف)؛ الفتاة الطريفة والخفيفة على الروح التي ستصبح قريباً في الثلاثين، ولا تزال تجهل كيف ستحقّق ذاتها في الحياة مستقبلاً. لا يزال فكرها مشوشاً. لا تعرف ماذا تريد، أو لعلّ ما تريده يتغيّر باستمرار، يتحوّر، يتخذ أشكالاً جديدة. هي التي درست الطبّ، تجد في التصوير هواية جديدة تريد ممارستها، لكن المسألة لا تستمرّ أكثر من لحظة! أولاً تلتقي أكسيل، الذي يكبرها بعقد ونصف عقد، وهو رسّام قصص مصوّرة جميل ومتحرّر، أمل أن تجد في حضنه الاستقرار الذي غالباً لا تبحث عنه. ثم تقع تحت سحر ألفيند (نادل في مقهى) الذي لا يملك أيّ سحر، علماً أنه يترك حبيبته من أجلها. وهكذا إلى آخر الفيلم، طوال ساعتين. من ضفّة إلى ضفّة.  
 
‎أراد ترير بورتري حديثاً، رشيقاً، طريفاً وحزيناً في آن واحد. عرّج على الكثير من المواضيع وهو ينفّذ الفيلم. نحن حيال بورتريه من 12 فصلاً نكتشف عبره فتاة ملقاة في هذا الزمن وتخبّطاته وخيباته. ما هو الحب وما هو الإخلاص وما هي المشاعر؟ هذه بعض التساؤلات التي تواجهها يوليا ويضعها المخرج نصب عينيه، مناقشاً البعض منها على ضوء الزمن الحالي. الفصول الـ12 تركّز على جهودها المهنية، علاقتها بأهلها وقصّتي حبّ ستتركان أثراً فيها. لكنّ هناك حديثاً آخر له أهميته في الفيلم: تعاني يوليا "مشكلة". لا تجد نفسها أمّاً بعد أو متردّدة حيال الأمومة، ما يتعارض مع رغبات حبيبها الأول.  

‎هذا كلّ ما في الفيلم، الذي يمكن عدّه ذروة في السخرية. يضع ترير كفّاً على وجه الصواب السياسي والعالم الذي لم يعد أكثر من طاولة مستديرة تُرمى عليها القضايا، وقد لا يليق بعضٌ ممّا ورد في الفيلم للطهرانيين أو حتى لرئيس لجنة التحكيم سبايك لي. هذا حديث آخر. 

يصوّر ترير البالغ 47 عاماً، فيلم حنين ولكن غير ماضوي. كشخص بلغ منتصف العمر، يتفهّم جيداً مَن هم أصغر منه سنّاً، ويتفهّم الهوّة التي تفصله عنهم، وهذا لا يكبح رغبته في إظهار تعلّقه ببعضٍ ممّا لم يعد يعني شيئاً عند فتيان اليوم وفتياته. رغم أنه لا يزال شابّاً في قمّة نشاطه وعطائه، فالعالَم الحالي يُصرّ على دفعه إلى المؤخرة، وهو يعرف ذلك ولا يمانع. هناك وادٍ بين زمنه والزمن الحالي، سواء على مستوى الثقافة أو المشاعر، فكيفية التعبير عنها. هذا كله يصوّره بنظرة فاحصة وساخرة وعاطفية وصادمة. 

‎بنظر ترير، هل يوليا هي فعلاً أسوأ إنسان في العالم؟ أم أنها ليست سوى فتاة تعيش وتختبر عصرها الإلكتروني حيث الشاشات تتداخل وما عاد شيء له تلك الأهمية؟ وهل قلّة الثقة في الذات هي التي تولّد هذا التأرجح الذي عند يوليا؟ أخيراً، هل كثرة الخيارات تجعل الإنسان غير راضٍ عن نفسه مهما فعل؟ هذه بعض أمراض العصر التي يتناولها الفيلم. 

 تمثيل بديع (ريناتا رينسف اكتشاف ملهم)، نصّ متماسك طريف وعصري، إخراج مبتكر ينطوي على لحظات باهرة كتلك التي يتجمّد فيها البشر والحجر حول يوليا باستثناء هي وحبيبها. باختصار، هذا واحد من الأفلام التي تخرج من روتين الأعمال المكرّرة التي لا تملك شيئاً مهمّاً لتقوله. 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم