الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

عقدتا الشعر والسفسطائية عند أفلاطون

خليل عاصي
A+ A-

أعتقد غير جازم أنّ ما دفع أفلاطون لاستبعاد الشعراء -والفنّ عموماً- من جمهوريته واعتباره الشعر غير ذي جدوى تأسيسية في البناء الإنساني والمجتمعي، لم يكن أنه محاكاة للمحاكاة -أي صورة عن صورة الأصل- كما برّر وعبّر، بل ربما لنقمته على السفسطائية التي كانت مزدهرة في ذلك العصر واعتباره الشعر ضرباً من ضروبها، والسبب الاخر هو إنكارهم فكرة الآلهة وطرحهم الاسئلة المشكّكة في وجهها. فهم لم يتورّعوا أبداً في استعارة الحجج والأمثال من مفكّرين سابقين، أو حتى من الأساطير التي كان المُحبِّذ للنقد الديني (بروذيكوس) يقول بأنها مجرد سيَر ذاتيه مُجمّله، وربما كان هذا من الأسباب التي أثارت الغضب والحقد عليهم أيضا.

لقد لعب السفسطائيون دوراً تعليمياً ومعرفياً أحدث تحوّلاً في المجتمع الاثيني بالتوجّه نحو الإنسان ومكانته ودوره المعرفي والمجتمعي بعيداً من الغيبيات، مما أشعل حنق اللاهوتيين ورجال الدين عليهم.

الجميع يتّفق مع افلاطون بأنّ السفسطائيين ارتكبوا اخطاء كأي حركة فكرية رغم الطمس والحرق المننهج لنتاجهم، لكن موقفه منهم في كتابه السفسطائي جاء حاداً وجائراً في كثير من المقاربات فقد عرّف السفسطائي، "بأنه صياد نفعي للشبان، صاحب طمع وجشع يشتري ويبيع أنواع التعاليم والمعارف من دون علمٍ منه هل بضاعته صالحه أم فاسدة!، وأنه صغار مرتزقة ومناضل في حلبة الرياضة والخطابة، وماهر في المشاحنة والمعارضة والمناقضة، وهو مشعوذ ووحش ضار، يلجأ إلى فن المخاتلة والصيد والاتجار". وقد قال أفلاطون عن السفسطة أيضاً: "إنّها الإيحاء أو الإيهام وخطابها مليء بالسحر والشعوذة، وبوجيز العبارة هم أدعياء معرفة يحاولون محاكاة الحكماء". ولعب الدور الأكبر في تشويه صورتهم واستمرّ الحال كذلك حتى القرن التاسع عشر، حيث ارتفع بهم هيغل ارتفاعا كبيرا في كتابه "تاريخ الفلسفة"، واعتبرهم مرحلة مهمة جدا من مراحل تطوّرها. وايضا الثورة الألسنية التي استهلها فردينان دي سوسور الذي ركّز على فضل السفسطائيين والدور الذي لعبوه، حيث أكدت هذه الثورة أنّ السفسطائيين كانوا فلاسفة، بل أساتذة في فنّ القول والخطابة والبلاغة. ويسجّل لهم أنهم أول من اخترع علم الاشتقاق (اشتقاق الكلمات) أو الاتيمولوجيا، ووضع القواعد اللغوية، وأول مَن حاول دراسة مختلف أنواع البراهين والحجج بغضّ النظر عن معرفتهم في هذا المضمار أو ذاك. وكانوا سادة فنّ الكلام، يكتبون الخطب في كل المناسبات، حتى وإن كان ذلك بغرض الكسب والمال، وبالتالي فإنّه يمكن اعتبارهم بحقّ مؤسسي فنّ الخطابة.

إن الادوات والموضوعات والمقاربات التي اشتغل بها السفسطائيون يشبهها الى حد كبير ما حاوله الشعراء من خلال طرح الاسئلة وخلخلة المستقرات واستدعاء الرمز والاسطورة وتوليد المعاني من الخيال، وممارسة السحر على المتلقي والتأثير فيه، وبالتالي فإنّ حكم افلاطون على الشعر أو الفنّ بكلّيته لا يمكن أن يكون خارجا على سياقه الفكري والمنهجي الذي يرفض كل صلة بتلك الحركة الفكرية المنبوذة. ولعله قوّل سقراط ما لم يقل في هذا الخصوص، فسقراط التقى معهم في نقاط واختلف بأخرى. حيث إنه شابههم في امتهان التعليم والاهتمام بالإنسان والتركيز عليه، لكنّه اختلف معهم في اعتباره أنّ بعض القواعد والنواظم مطلقة، مثل: الحق والباطل، والخير والشر. الامر الذي خالفته نظرية بروثاغوروس أحد أهم أعلام السفسطائيين التي تحدثت بالنسبية في النظر إلى الأمور وتقويمها، وتجدر الاشارة هنا الى أنّ هذا الفيلسوف السفسطائي كان أول من وَلدَ فكرة النسبية وانه كان ملهما لاينشتاين في نظريته المعروفة.

لكن السؤال يبقى: ألا يستحق موقف هذا الفيلسوف السفسطائي التأمل قليلاً؟ ألا ينطبق هذا الرأي مع ما يقوله علماء الفلسفة والاجتماع المعاصرين؟

أليس من ضروريات العبور من مرحلة إلى أخرى في مسيرة البحث عن الحقيقة المرور بمرحلة من الشك وعدم الاستقرار والفوضى التي تؤسس بدورها من خلال الإشارات التي تتركها والآفاق التي تفتحها بعدما تصفو الى تشكيل منطلق جديد لتلك الحقيقة؟

وهل الفيلسوف إلا بادئٌ بالشك منطلقٌ من تشوشاته، ساعٍ إلى اليقين من خلال إزاحة توجساته وظنونه؟

ألم تكن السفسطائية على مشاكلها المحرّض الاساس على وجود الحكمة "الفلسفة"؟

ألا يخوض الشاعر أيضاً في الدرب عينها التي يخوض فيه الفيلسوف، ولكن غير عابئ بالوصول، بل محرّض على الجمال والتأمُّل والسؤال والتفكر، ليجعل من كل متلقٍ متفتح الذهن فيلسوفا ومستبصراً؟

أخيرا إذا كان الفيلسوف والشاعر من سنخية واحدة ترعرع كلاهما في رحم السؤال، فكيف للأول أن يكون على رأس جمهورية أفلاطون ويطرد الآخر منها؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم