الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

فليكن أول أيار رفضاً لسياسة "الإفقار أو الانهيار"

غسان صليبي
فليكن أول أيار رفضاً لسياسة "الإفقار أو الانهيار"
فليكن أول أيار رفضاً لسياسة "الإفقار أو الانهيار"
A+ A-

كشف خطر الانهيار المالي والنقدي الذي يحدق بلبنان، عن حقيقتين يجري عادة طمسهما او تمويههما في الظروف العادية. الحقيقة الاولى، هي مدى الهدر واستباحة المال العام، في مختلف القطاعات وعلى كل المستويات، على يد الطبقة السياسية الحالية التي مارست الحكم، منفصلة او مجتمعة، منذ اتفاق الطائف. وقد شاركت الطبقة السياسية نفسها في كشف هذه الحقيقة من خلال الافصاح عن بعض الارقام في محاولتها تفادي الانهيار، وعبر الاقدام على طرح بعض الاصلاحات بضغط من الجهات الدولية الممولة لمشاريع "سيدر".

الحقيقة الثانية، هي انقسام المصالح في البلد بين اصحاب الاجور واصحاب الرساميل. وهذا ما ساهمت ايضا في كشفه اقتراحات الطبقة السياسية لتفادي الانهيار، التي تتأرجح بين سد العجز من جيوب موظفي القطاع العام من طريق خفض الاجور وملحقاتها، او تحميل المصارف بعض الاعباء من طريق رفع الضريبة على الفوائد. مع ميل واضح لمصلحة المصارف، واهمال لمصادر التمويل التي تطال الرساميل عبر سياسة ضرائبية تصاعدية عادلة.

للاسف لم تجر بعد ترجمة هاتين الحقيقتين، من خلال صراع اجتماعي سياسي حول التوزيع العادل لأثمان تفادي الانهيار؛ صراع يركز على السياسات الاقتصادية الاجتماعية للدولة كسبب رئيسي للأزمة، ويكتل ي وجه هذه السياسات اصحاب الاجور والفئات الوسطى والفقيرة التي تعمل الطبقة السياسية على تدفيعها ثمن سياساتها.

موقف السلطة

على رغم كل الفضائح التي تدين السياسات التي اتبعتها السلطات، لا تؤشر اقتراحاتها لمعالجة الازمة إلى أي رغبة او استعداد لتصحيح هذه السياسات. على العكس من ذلك، تغفل مسؤولية هذه السياسات في رؤيتها للازمة.

في مقابلة حديثة مع القناة الوطنية التونسية، وردا على سؤال حول الازمة الاقتصادية، قال رئيس الجمهورية اللبنانية: "ان لبنان عايش ثلاث ازمات كبرى من الناحية الاقتصادية: الركود العالمي والحروب في المنطقة اضافة الى ازمة النازحين الذين بات عددهم في لبنان اكثر من مليون ونصف مليون."

واضح من تصريح رئيس الجمهورية تركيزه على العوامل الخارجية للازمة، ولا ذكر لمسؤولية السياسات الحكومية ومن بينها تلك التي تضمنها كتاب "الإبراء المستحيل" الذي اصدره حزبه عندما لم يكن بعد رئيسا للجمهورية، والذي انتقد فيه السياسات الاقتصادية لـ"الحريرية السياسية". لا ذكر ايضا بالطبع لكلفة الانفاق على قطاع الكهرباء الذي تولى مسؤوليته ممثلو حزبه لمدة عشر سنين من دون اي انجاز يذكر. فضلا عن الكلفة الاقتصادية التي ترتبت على تعطيل الانتخابات الرئاسية لمدة سنتين ونصف السنة، والعجز عن تأليف الحكومة لمدة تسعة اشهر.

لذلك نرى رئيس الجمهورية يتكلم عن "المقاومة الاقتصادية" وكأن الازمة في مفهومه، مثلها مثل الاحتلال، عامل محض خارجي.

لا يختلف موقف الحكومة في جوهره، وتحديدا موقف رئيس الحكومة، عن موقف رئيس الجمهورية. فمشاريع "سيدر" واصلاحاته لا تقارب النموذج الاقتصادي الريعي السائد ولا السياسات الاقتصادية الاجتماعية المعتمدة منذ عقود.

واذا كان توصيف الازمة الذي ادى الى برنامج "سيدر" لا يعدد، كما في تصريح رئيس الجمهورية، العوامل الخارجية للازمة، فإنه ينطلق من افتراض غريب ومضلل، اذ يعتبر ان وضع لبنان الحالي شبيه بمرحلة خروج لبنان من الحرب! وعليه، وبحسب هذا الافتراض، لا بد من برنامج استثماري وطني يعطي الاولوية لتأهيل البنى التحتية.

هنا ايضا يجري تحميل مسؤولية الازمة الى عامل "رمزي"، اطرافه غير معلومين، يشبه زلزالا ضرب البلد وتسبب بمصائبه.

واذا كان لـ"حزب الله" فهمه المختلف للازمة الاقتصادية، فإن تصديه للفساد يعكس موقفا شبيها من حيث نظرته إلى هذه لظاهرة. وهذا ما يستدل من خطبة السيد نصرالله حول الموضوع.

ففي تاريخ 8 اذار من هذه السنة، قال السيد نصرالله في خطبته ما يأتي حول مكافحة الفساد: "اننا امام واجب ديني واخلاقي ووطني وانساني. لا نقدر ان نقف متفرجين حتى لا يزعل فلان، ونترك بلدنا يسير نحو الانهيار. بناء عليه نحن نعتبر انفسنا في معركة مهمة جدا وجهادية ايضا لا تقل قداسة واهمية عن معركة المقاومة ضد الاحتلال والمشروع الصهيوني في المنطقة."

وقد اعتبرت في حينه جريدة "الاخبار"، القريبة من "حزب الله"، ان خطابه "يشبه خطابات قائد المقاومة في لحظات الحروب العسكرية". وعنونت ان "نصرالله يطلق المقاومة الوطنية للفساد".

يعرف السيد نصرالله بالطبع ان الفساد ظاهرة داخلية، لكنه يتعامل معها لغويا كظاهرة خارجية، تستحق المقاومة، مثلها مثل الاحتلال الاسرائيلي.

واذا كان يمكن تفهم الوظيفة التعبوية لهذه اللغة، الا انه تترتب عليها نتائج خطيرة من حيث النظر الى الفساد والفاسدين. فمكافحة الفساد انطلافا من دوافع دينية، واعتبار هذا العمل معركة جهادية، تجعل الفساد شرا مطلقا، والفاسدين اعداء يجب القضاء عليهم، وليسوا مجرد مرتكبين مخالفين للقانون يجب تسليمهم الى القضاء. مما يلغي عن ظاهرة الفساد صفتها الاجتماعية، اي كونها ظاهرة انتجتها ظروف معينة ولها اسبابها وشروط ممارستها.

في هذا المعنى، يصبح الفساد هنا ايضا وكأنه ظاهرة خارجية، لا تحتاج معالجتها الى مقاربة تأخذ في الاعتبار العوامل المجتمعية التي ادت اليها، ومنها في الواقع اللبناني البنية الطائفية، و"حزب الله" جزء منها، والمحاصصة المترتبة عليها وما ينتج منها من ممارسات غير قانونية، من مثل الفساد وغيره. ولا يمكن تفسير رد الفعل المذهبي على استصواب الرئيس السنيورة في معركة الفساد من "حزب الله"، الا اذا اخذنا في الاعتبار هذا الالتباس في مفهوم الحزب للفساد.

في هذا المناخ الفكري لدى الطبقة السياسية، يجب الا نستغرب أطروحاتها من اجل تفادي الانهيار، التي تركز على تقليص اجور العاملين في القطاع العام، دون معالجة السياسات التي ادت الى هذا الواقع في القطاع العام نفسه وعلى مستويات اخرى يجب عدم اغفالها في البحث عن الحلول.

لا شك في ان لهذه المقاربة المتبعة وظيفة، هي اعفاء الطبقة السياسية من مسؤوليتها عن الحال التي وصلنا اليها.

لعل اصدق تعبير عن هذه المقاربة ما قاله وزير الخارجية: "على موظفي الدولة ان يقبلوا برواتب اقل لانه اذا لم تخفض فلن يبقى معاش ولن يبقى اقتصاد ولن تبقى ليرة".

اي ان وزير الخارجية يخيّر الموظفين بين "الافقار او الانهيار" ويحمّلهم مسؤولية الكارثة إن حصلت. طبعا لا ينسى الوزير ان يمتدح "جرأته" في قول هذه الحقائق للبنانيين. مع العلم أن الجرأة الحقيقية تكون بتقديم استقالته امام العجز عن ايجاد حلول لأزمةٍ ساهم هو وغيره من الطبقة السياسية في الوصول اليها.

الحاجة الى موقف معارض موحد

لا يوجد حتى الان موقف نقابي وشعبي موحد، معارض لسياسة "الافقار او الانهيار".

هناك رفض من هيئة التنسيق النقابية للمس بأجور موظفي القطاع العام، لكنه موقف دفاعي بحت عن اجور العاملين، ولا يحمل أطروحات بديلة لمواجهة سياسة الحكومة.

موقف الاتحاد العمالي العام لا يختلف كثيرا، مع بعض المطالب المتفرقة العمومية المتصلة بطرق خفض عجز الموازنة، وبدون تحرك عملي لتحقيق هذه المطالب.

اما القوى التي طرحت مجموعة من السياسات الاقتصادية الاجتماعية البديلة في اطار التحركات التي نظمت تحت عنوان "الى الشارع"، فيبدو انها انكفأت فجأة. فللمفارقة، كانت هذه التحركات ناشطة عندما لم يكن هناك حكومة يمكن الضغط عليها، في حين توقفت هذه التحركات بعدما تألفت الحكومة وبدأت بمناقشة خطة الكهرباء والموازنة.

لا بد من التنسيق بين جميع هذه القوى وغيرها من اجل تعديل السياسات الاجتماعية الاقتصادية ومنع الانهيار، عبر إجراءات توزع كلفة معالجة العجز بشكل عادل بين الطبقات والفئات الاجتماعية. ويشكل تعديل السياسة الضرائبية أحد اهم هذه الاجراءات.

لكن هذا لا يعني ان تتجاهل المعارضة المشكلات الكبيرة في القطاع العام من خلال دفاع اعمى عن الموظفين والاجور وملحقاتها. بل يجب ان يكون لها موقف عادل بالنسبة إلى فئات الاجر ايضا، وموقف عقلاني ونقدي بالنسبة إلى مسألة التوظيف العشوائي والزبائني بشكل عام. في اطار رؤية تحافظ على القطاع العام وتعمل على اصلاحه في الوقت نفسه، بهدف تقديم خدمات عامة جيدة وبكلفة مقبولة من المواطنين.

طرح رئيس الاتحاد العمالي العام خلال اعتصام هيئة التنسيق اخيرا، فكرة عقد مؤتمر وطني لجميع المتضررين. يجب تطوير هذه الفكرة ووضعها في سياق تنظيم انشطة لمناسبة الاول من ايار، عيد العمال، اي عيد العاملين بأجر، انشطة هدفها الضغط على الحكومة. على ان يترافق ذلك مع اقتراح سياسات بديلة لمنع الانهيار، مما يفترض حصول تنسيق مسؤول ووثيق بين جميع القوى للوصول الى حد ادنى من التوافق.

يمكن ربما، في آلية الضغط ومساره، التعويل على الانقسامات داخل الحكومة في شأن التدابير الواجب اتخاذها.

ففي تصريح مناقض لموقف رئيس تياره، دعا رئيس الجمهورية في عيد الفصح الى عدم المس بأجور الفقراء. في المقابل سربت ورقة طرحها رئيس الحكومة، تقترح خفض الاجور ورفع ضريبة الـTVAـ

من جهته اكد السيد نصرالله، في آخر خطبة له، التزام حزبه "عدم المس بمداخيل الناس او فرض ضرائب جديدة عليهم". وأضاف "ان اللبنانيين اصبحوا امام الحائط بسبب الهدر والفساد". اي ان المشكلة باعترافه، ليست فقط في بنود الانفاق، بل في ادارة الانفاق. وهذا من مسؤولية السلطة، بما فيها "حزب الله"، المسؤول عن بعض مصادر الهدر التي يشرف عليها مباشرة.

هذا الانقسام في مواقف اطراف الحكومة، يفتح الباب امام القوى المعترضة لاقتراح سياسات بديلة من سياسة "الإفقار او الإنهيار".

الأهم من ذلك الضغط من اجل تبني هذه السياسات. فنحن، لا المسؤولون، من سيتحمل عبء الافقار او الانهيار. ليس فقط لانهم يضعون اموالهم في الخارج. بل لانهم ايضا مَن سوف يدير التفليسة. وللتفليسة مقايضاتها وارباحها ايضا. وقد يعرضون البلد بأكمله في المزاد العلني اذا اقتضى الامر، امام قوى الخارج التي هم مستتبعون لها.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم