الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

لطيف زيتوني وموعد غير متوقَّع جمعتنا به الرواية والقيم

مارلين سعاده
A+ A-

دعوة بمثابة هديّة حقيقيّة

أكثر من ثلاثين سنة مرّت على لقائي الأخير به. كان أستاذي في الجامعة اللبنانيّة في أواخر الثمانينيّات. هو من الأساتذة الذين يحفر اسمهم في الذاكرة ويبقى مشعًّا ومتقّداً في الذهن، لما في شخصيّته من الرزانة والخُلق الرفيع: حضور رصين جاذب للإصغاء وطلب المعرفة، مع ابتسامة وديعة حليمة لا تفارق وجهه. ولكم تمنّيت بعد عودتي المتأخّرة الى الجامعة أن ألتقيه من جديد.

وبعد انتظار غير معلَن، تحقّقت أمنيتي حين قرأت صدفة دعوة الى ندوة تقام في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة، حول كتاب "الرواية والقيم" لـ لطيف زيتوني. كانت الدعوة بمثابة هديّة حقيقيّة لي، فشغفي بالرواية يوازي شغفي بالقيم، يضاف إليهما شوقي لرؤية أستاذي من جديد، ولقاء الأساتذة المنتدين: من الجامعة الأميركيّة في بيروت بلال الأورفه لي؛ من جامعة البلمند جورج دورليان؛ ومن جريدة النهار عقل العويط. أدارت الندوة ندى صعب.

وبالعودة الى موضوع الندوة، التي فاتنا أنا وصديقتَيّ قسمٌ منها، إذ أخّرتنا زحمة السير الخانقة في بيروت عن الوصول في الوقت المحدّد، يمكنني أن ألخّص بعض ما ورد فيها من أفكار، أكان من خلال ما تابعته من الكلمات التي أُلقيت، أم من خلال المداخلات التي حصلت في ختامها.

جورج دورليان: نعيش في عالم من دون قيم

اعتبر جورج دورليان أنّ المدرسة هي، الى جانب الدين، مصنع المثقّفين. والعلاقات الاجتماعيّة هي علاقات إنتاج. وعلى المثقّف من الطبقة العليا أو الوسطى القريبة منها، أن يخون طبقته ويختلط بالعامّة، أن يرتدّ. أمّا عن القيم فهو يعتبر أنّنا نعيش في عالم من دون قيم، لأنّ القيم لا تتجزّأ: إسلاميّة مسيحيّة... كما هو حاصل اليوم، وإنما يترتّب علينا بناء علاقة في ما بيننا توحّد قيَمَنا.

كما توقّف عند تأريخ مراحل الرواية انطلاقاً من بنية الأدب وليس وفق الوضع السياسي القائم (أموي، عباسي، أندلسي...)، فقد صُنّفت الرواية سياسيًّا، كما صُنّفت جغرافيًّا (الرواية السورية، والرواية اللبنانية...). ثم أشار الى أنّ الديانات اعتمدت نمط القصص لتوصل رسالتها، وهذا النوع من القصص يتضمّن قيمًا معيّنة.

عقل العويط: أنقِذوا العلوم الإنسانيّة في الجامعات

أطلق عقل العويط في بداية كلمته صرخة دعا فيها الجامعات الى "إنقاذ العلوم الإنسانيّة فيها من الانهيار أو الزوال، وإعطائها الاهتمام نفسه الذي تحظى به بقيّة العلوم، كالطب والرياضيّات... إذ لا معنى لجامعاتنا من دون وجود العلوم الإنسانيّة فيها". فلامس نداؤه قلوب الحاضرين من أساتذة وطلاب، وعلا تصفيقهم تأييداً ودعماً لهذا المطلب الضروري والمُلِحّ، والذي يشكّل تحذيراً ممَا ستؤول إليه حال المثقّفين، بل كلّ فرد في هذا الوطن، في غياب العلوم الإنسانيّة.

وعن دور الرواية في الدفاع عن القيم، وكيفيّة ممارستها هذا الدور، قال: "مسؤوليّات الرواية لا تقتصر على حدودها الفنّيّة، بل تحتاج الى أخلاقيّات: في النشر والترجمة، والنقد، والسلطة. وأخلاقيّات العلاقة بين أطراف السرد: قارئ، مؤلِّف، قارئ ضمني، مؤلِّف ضمني." ثم وجّه دعوة للقيام بأبحاث من خلال "تفكيك العمل الروائي وما يتضمّنه من أمور نفسيّة... وذلك باختيار أعمال روائيّة يتمّ التطبيق عليها وطرح الأسئلة حولها، وصولاً لحماية القيم الأخلاقيّة، ومواجهة القيم المضادّة".

بلال الأورفه لي: القِيَم تختلف بحسب الديانة والبلد والمجتمع

أمّا بالنسبة الى بلال الأورفه لي فالقيم تختلف بحسب الديانة والبلد والمجتمع، بمعنى أنّ ما يُعتبر قيمة أخلاقيّة في حضارة ما ليس قيمة في غيرها. وبالنسبة للرواية، برأيه إذا اتّفقت الرواية على القيم ذاتها لا يعود من حاجة لها؛ من هنا يرى أهمّيّة الاختلاف على القيم. مصرّحاً أنَّ ما يعنيه من الرواية، أو بمعنى آخر، ما يمكن أن تقدّمه له الرواية حين يقرؤها، هو المتعة والتسلية ليس أكثر!

وهنا نسأل: أليس من المجحف في حقّ الرواية أن نجعل دورها يقتصر على إمتاعنا؟

ناظم عودة: دوستويفسكي حرّكُ الأفكارَ الفلسفيةَ في "الفعل" الروائيّ

وللإجابة على السؤال يحضُرُني ما كتبه ناظم عودة على صفحته التواصليّة، بتاريخ 2 نيسان 2019 تحت عنوان "السبّاكات والسبّاكون"، قال: "... ألا ترون بأنّ الحكايةَ التي بُنِيَتْ عليها روايةُ: (الجريمة والعقاب) إحدى أعظم الروايات في تاريخ الأدب الروائيّ، حكايةٌ ساذجةٌ يُمْكنُ لخيالٍ يفتقرُ للموهبة أنْ يأتي بمثلها. لكنّ سرّ عظمتها يكمنُ في كيفيّة توجيهها، وبَسْط الأسباب والمسبّبات، والمقدّمات والعلل والنتائج، وترميز أفعالها، وصَهْر كل ذلك في حوارٍ شيّق كأسلوبٍ، وعميقٍ كرؤيةٍ جرى فيها استثمارُ الحكاية لتؤدي وظيفةً ذاتَ أبعادٍ أنطولوجيةٍ، يكمنُ فيها قلقُ المصير الإنسانيّ برمته من خلال المواجهة مع المفاهيم والمسلَّمات القَبْلية عندما يكون القانونُ/ الشريعةُ مُحرّضَيْن على الفوضى، وعندما يكون الدينُ عائقاً أمام الإيمان. دوستويفسكي حرّك الأفكارَ الفلسفيةَ في "الفعل" الروائيّ. إنه يضخُّ فيه دمَ الحيوية وطاقةَ التجسيد والتمثيل. وهذا ما أسميه: صنعةَ الرواية...".

لطيف زيتوني: منطلقات هذا العمل وخلفياته البحث عن المسؤوليّة الثقافيّة

بعد كلمات المنتدين، ختم لطيف زيتوني اللقاء بكلمة أوضح فيها منطلقات هذا العمل وخلفيّاته، قال: "هو بحث عن المسؤوليّة الثقافيّة، مسؤوليّاتنا جميعاً (أكاديميًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا)، هي مسؤوليّات مفروضة، عليّ تقديم حساب عنها؛ لذا لا بدّ للمسؤوليّة من قواعد تُبنى عليها. إلا أنّ المسؤوليّة الثقافيّة في عالمنا غير مفروضة، ولا يُطلب منّا تأدية حساب عنها، إذ ليس لديها مرجع سوى أنفسنا، وهي بالتالي خيار حُرّ، يحتاج الى قدر من الوعي والثقافة. ولذلك انطلقت في كتابي، بحثاً عن هذه المسؤوليّة". 

أيّ قيم علينا اعتمادها؟

في ختام اللقاء طُرح العديد من الأسئلة، من ضمنها هذا السؤال: القِيَم لا تُحصى، وبعضها متناقض، ويختلف من شعب لآخر، وفق تقاليد كلّ شعب ومعتقداته الدينيّة (موقف سكّان الهند من بعض الحيوانات، تقديسهم لها، التقمّص، أكلة لحوم البشر...) أي قيم منها علينا اعتمادها؟

فأجاب زيتوني: "علينا تبنّي القيم الإنسانسيّة، أي التي تحمي الإنسان من دون تمييز." وأضاف: "القيم ليست ثابتة. مع الزمن، لم تعد الضيافة مثلاً من القيم الكبرى عند العرب، وذلك بسبب تحوّلات الحياة الاقتصاديّة التي أدّت الى تغيُّر القيم." وأشار الى أنّه لا توجد قائمة بالقيم.

ثمّ ختم قائلا: "دور العلوم الإنسانية أن تكون في حالة بحث عن قيم ملائمة لحالة المجتمع المتحوّل بشكل دائم. اليساري مثلا حصَرَ نفسه بقِيَم اليسار وخَمَدَ، أي لم يعد يتطوّر... المثقّف الحُرّ يتطوّر مع تطوّر المجتمع، ولا يرفض القيم التي لا تنتمي الى أيديولوجيّته. بعض المثقّفين دفعوا حياتهم دفاعاً عن القيم". 

كان هذا اللقاء إشارة واضحة الى تحوّل الزمن، ولكن أيضاً الى وجود ضوء في فتيل الشعلة يصارع عواصف العصر. ثمّة نبض ما زال يخفق، فهل سننجح في الحفاظ عليه؟

*د. لطيف زيوتوني، أستاذ جامعي، من إصداراته: الرواية العربية: البنية وتحولات السرد، حركة الترجمة في عصر النهضة، معجم مصطلحات نقد الرواية، وكتابه موضوع الندوة: الرواية والقيم. كما له عدد من الكتب المترجمة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم