الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

رقص - "إلغاء" ألكسندر بوليكيفيتش في "دوّار الشمس" \r\nالمقاومة بالبرفورمانس الراقص في الخلاء

روجيه عوطة
A+ A-

قدم ألكسندر بوليكيفيتش في برفورمانسه الراقص، "إلغاء" (دوار الشمس)، سيرة مختصرة للإعتداء على المرأة في العالم العربي، مستنداً إلى واقعة الإغتصاب الذي تعرضت له بعد اندلاع الربيع الثوري، ولا سيما في مصر. لا يبقى الفنان على الحياد، فهو "يلغي" الإلغاء، ويتصدى للإنتهاك بجسمه الخفيف، وحركاته الرشيقة، التي لم يستطع الصوت القاسي أن يقبض عليها. يزداد الرقص ابداعاً في علاقته مع جسد بوليكيفيتش من جهة، والموسيقى من جهة أخرى. كل محاولة لإيقافه، عليها أن تعطل الجهتين. وهذا ما يسعى إليه الكلام الديني المتطرف، الذي سرعان ما يتغير إلى عواء، حين يمنع الموسيقى، ويحتك بالراقص، بغاية الإمساك به، ودفعه نحو الإذعان. لكن، بوليكيفيتش يقاوم، ولا ينهار.


يمارس الفنان مقاومته على مستويات السينوغرافيا (أمل سعادة)، والرقص، والموسيقى، التي يتلاءم بعضها مع البعض الآخر، وتتوازن كي يكون الجسد محور السيرة، بالإضافة إلى تحوله، في لحظة من اللحظات، إلى مسرح للهجوم والتعدي. يتألف مكان العرض من عنصرين، الخلاء الأسود، ومجسم الشَعر المنسدل، بحيث أن الأول يبدل معنى الثاني بين حين وآخر. فمرةً، يبدو كأنه يخفي جريمة ما في حق إحدى النساء، التي لا يظهر من جثتها سوى شعرها، ومرةً، يختبئ الراقص خلفه، فيصير ملجأً، أو ملاذاً آمناً، بحسب ما يدور في الفضاء المقفر من أحداث اصطدامية بين الجسد والصوت الغاضب، الذي يمنع ويقصي ويحجب.
على هذا الأساس، السينوغرافيا ليست جامدة، بل متحركة بدلالتها، ولا سيما مع بدلة الرقص (تصميم كريكور جابوتيان) التي تهبط من السقف، وتبقى معلقة في زاوية بعيدة، وعلى الفنان أن يختار بينها وبين الشعر المسترسل الذي توازيه. لا يواجه بوليكيفيتش الهجمة الدينية فحسب، بل يجابه هوية اجتماعية، تلفّ جسده، وتحاول سجنه، وهي على تواطؤ مع الصوت العصبي، لأنها تسمح له بتعرية الجسم، والإنقضاض عليه. ينقطع الرقص، وتهبط البدلة، فيرتديها الفنان، الذي تهزه الأيدي الممتدة صوبه، فيصبح مجرد جسم مضطرب. بدل الحركة المتنقلة يحل الرجفان. في هذه اللحظة من السيرة الراقصة، لا يكون في مقدور المرأة أن تختبئ وراء الشعر المعلق، ولا أن تواصل عيشها في الخلاء الأسود، الذي ينقلب من فضاء جسدي إلى ظلام قاس. تبدو وجهاً في وجه السلطة الذكرية، التي تتحرش بها، وتحاول اغتصابها.
إلا أن الرقص لا يتوقف أثناء مشهد الرجفان الذي يتحول حركة ابداعية، يبرع بوليكيفيتش في تقديمها لوقت غير قصير. على هذا المستوى، يظهر كأن الرجفان، الذي هو علامة ذعر في سيرة المرأة، يصبح رقصاً في الجسد نفسه، أي أن بوليكيفيتش المحاصر بفعل الصوت في الخارج، يبدأ يرقص في داخله. إذ ينقل الفضاء إلى جسده، فيحصن رقصه، مقاوماً هجمات الأيدي التي تحتك بجلده، معتقدةً أنها ستتمكن من إلحاق الأذى به، بدون أن تدرك أن الراقص، الذي يمثل المرأة المقاومة، لم يعد يتحرك على جلد جسمه، بل ينتقل إلى أعضائه. في كل مشهد من مشاهد السيرة، يؤدي رقصته أفقياً كي يصل إلى ترسيخ جسده في المكان، دافعاً جوانيته إلى الحركة أيضاً. كأن الرجفان، الذي كان إشارة رعب، يصير دليلاً على رقص أعضاء الجسم، حتى تتحررت من سلطة الصوت واليد، التي تطغى على الجلد. في هذا السياق، ينتقل الراقص، وقبله المرأة، من سيرة الضحية إلى سيرة المقاومة، كما أنه يحرك الخلاء، الذي يتغير على ثلاث مراحل: من فضاء جسدي، إلى ظلام شديد، ومن ثم جسد داخلي.
لا تتلاحق مشاهد السيرة الجسدية من دون التنسيق مع الموسيقى، التي تسري في العرض بفعلي السرد والتحريك، بحيث أنها تساهم في دفع القصة من وضع إلى آخر، بالإضافة إلى أنها تحرك جسد الراقص ليظل هو الأساس. كما لو أن بوليكيفيتش بخفته هو الذي يحرك الموسيقى، ويذهب بها نحو جسمه، كي تخففه أكثر، أو كي تحميه، أو لتعينه على الفرار من قبضات المغتصبين. هذا، فضلاً عن دورها في مقاومة الصوت الغاضب، ودحض تطرفه المتربض والمنقض. تالياً، تساعد الموسيقى الفنان في الإنتقال من الخلاء إلى جسده، وتدفعه إلى ترقيص واقع المرأة، بهدف ترسيخ مقاومتها الجسدية، التي تتصدى لهجمات الدين والمجتمع بها، من دون أن تكون مجرد كائن مقاوم، أي لا عمل له سوى المقاومة التي تُمارس بالرقص والجسد المتحرك والعيش الرشيق. في النتيجة، يتفلت بوليكيفيتش برقصه البلدي من الأيدي المتحرشة، وينتقل إلى مكان جديد، حيث يرتدي بدلة أخرى، ويبدأ بالرقص كأن لا انتهاك وقع في الأصل. هنا، لا بد من الإشارة إلى المفارقة التي تحملها نهاية العرض. فمن الممكن أن يدل المشهد الأخير على العودة إلى البداية، أي أن المرأة ترجع إلى محطتها الأولى قبل أن تتبدل سيرتها على "أيدي" المتطرفين والذكريين. كما يدل المشهد نفسه على فعل آخر، هو خاتمة الخروج على سلطة الانتهاك، ليتحول الرقص إلى آمرٍ، والراقص إلى قائلٍ، يدعو جواد (جواد نوفل) إلى تشغيل الموسيقى. من هذه المفارقة الختامية، يعبر الفنان من جسده إلى خشبة المسرح، ويؤدي رقصته بينما الموسيقى ترتفع، معلناً أنه يقاوم ويصمد بخفته ، وها هو قد صار راقصاً من جديد، مثلما كان على الدوام.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم