الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

لن أصدّق

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

سأصدّق أن لا شيء في مقدوره أن يكسر الأمل، على رغم ما نعانيه موضوعياً من معطيات المرارة والخيبة واليأس والإحباط. 

سأصدّق أن نوراً سيقذفه الله في صدور أهل السلطة وأتباعهم، وسيفتّح عقولهم وقلوبهم وضمائرهم، وأن الحكومة ستتألّف قريباً، وأن أعضاءها سيكونون جميعاً من أهل الأمانة والاختصاص والمعرفة والخبرة والنظافة والصدق والشرف، وأنهم لن يجيئوا نتيجة المحاصصة، وبغاية التقاسم، بل خدمةً للجمهورية الموجوعة، ولأبنائها المفجوعين بمصائرهم الكارثية.

سأصدّق أن مجلس النوّاب سيمارس، بعد طول انكفاءٍ وتلكؤ، دورَيه كاملَين في الرقابة والمساءلة والتشريع.

سأصدّق أن القضاء سيتملّص من كلّ الضغوط، وسينتفض على "الإرهابات" الموضوعية، السياسية والمادية والمعنوية والأمنية، من أجل نشر العدل والحقّ والقانون في أنحاء الجمهورية اللبنانية.

سأصدّق أن لا أحد بعد الآن سيتجاسر، ويمدّ يده المتطاولة على أهل الرأي الديموقراطيّ الحرّ المتعدّد المتنوّع.

سأصدّق أن الكوابيس، كوابيس العيش الذليل، والكرامة المُهانة، والسيادة المطعونة، وكوارث الرزق والكهرباء والماء والسير والاستشفاء والمدرسة والجامعة والعمل والضمان والوظيفة، ستولّي إلى غير رجعة.

ولن...

لن أصدّق بعد الآن، أننا سنظلّ أسرى السجون المهينة وطنياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً، التي صنعناها بأنفسنا، ولا نريد، أو لا نعرف، أن نحطّم جدرانها، الوهمية منها والحقيقية على السواء.

لن أصدّق أننا سنظلّ عبيد هؤلاء السجّانين الجلاّدين الأسياد الذين لا يستحقّون – لا هم ولا أحد سواهم - أن يصادرونا، ويستولوا علينا، ويكونوا ملّاكاً لنا، وأوصياء على أحلامنا وإراداتنا، ولن أصدّق أن واحداً منا – واحداً فحسب - سيظلّ يقبل أن يبذل من أجلهم أيّ شيء، أيّ شيءٍ على الإطلاق.

لن أصدّق أننا سنظلّ قطعاناً بشرية عند هؤلاء "الرعيان" الذبّاحين القصّابين الذين يأخذوننا صاغرين إلى وليمة المقتلة اللبنانية.

لن أصدّق أن أقدارنا هذه ستظلّ مكتوبةً علينا، وأنه لن يكون ثمة مفرٌّ من الرضوخ لهذه الأقدار.

لن أصدّق أيّ "حقيقة"، من كلّ هذه "الحقائق" الدامغة التي تصفعنا كلّ يوم. من مثل أننا لن نستطيع أن نقلب الطاولة على هذا الفساد، على هذه الطبخة، على هذه التسوية، على هذه الدناءة المستشرية، على هذا الإرهاب، على هذا الإذلال، على هذا الاحتلال، وعلى هؤلاء الزعماء وهذه الأحزاب والتيارات.

لن أصدّق أننا لن نستطيع الخروج من الدوّامة الجهنمية التي تمتصّ دماءنا، وتسرق أحلامنا، وتخمد ورودنا، وتطفئ نجوم سهرنا الجريحة.

لن أصدّق أننا سنظلّ نموت بسبب التلوّث، أو بسبب الإحباط، أو بسبب انهيار المعايير الأخلاقية، أو إكراماً لزعيمٍ من هؤلاء الزعماء، وحزبٍ من هذه الأحزاب، ومذهبٍ وطائفةٍ من هذه المذاهب والطوائف.

لن أصدّق أننا لن نستطيع أن نتوصل إلى حلٍّ مشكلة الكهرباء، فنوقف الإهدار الكارثي الذي لا مثيل له ولا صنو في كلّ أنحاء العالم.

لن أصدّق أننا لن نستطيع أن نوقف بيع جبالنا، وتسميم مائنا، ودسّ الموت في مزروعاتنا، وحقن سمكنا وبحرنا بالسرطان، وهوائنا بالاختناق، وأرواحنا وأجسامنا باليأس الزعاف.

لن أصدّق، ولن أريد أن أصدّق.

لن أصدّق أننا لن نستطيع أن نفرض الكوتا النسائية في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية وفي المواقع الرسمية والخاصة، ليكون وجود المرأة شرطاً قانونياً ودستورياً واجباً ومطلقاً وبأيّ ثمن، وعلى رغم أنف مَن لا يرغب ويريد.

لن أصدّق أننا سنظلّ نرفض مساواة المرأة بالرجل الكاملة والمطلقة، وبلا قيد وشرط، في قوانين الأحوال الشخصية وفي المسائل القانونية والمجتمعية.

لن أصدّق أننا سنظلّ نريد أن نُقِرّ تشريعاتٍ دستورية باستخدام المحارق والمطامر.

لن أصدّق أننا لن نستطيع أن نعثر على حلٍّ لأزمة السير.

لن أصدّق أننا سنظلّ رهائن المواكب الرسمية وغير الرسمية، وأننا سنظلّ لا نحترم إشارات المرور الضوئية، ولا قوانين النظافة.

لن أصدّق أننا نريد تشريع الحشيشة.

لن أصدّق أننا لا نستطيع – أو لا نريد - أن نطبّق سيادتنا على أنفسنا.

لن أصدّق، لأني لا أستطيع أن أتحمّل أن أصدّق أن الدولة لا تملك السيادة الحصرية على ذاتها وأرضها وحدودها وسلاحها.

لن أصدّق أن هذه السلطة التنفيذية هي السلطة التشريعية، والعكس بالعكس، وأن هاتين السلطتَين ستظلاّن ترخيان بثقلهما المشترك على مهابة القضاء، وستظلاّن تجعلانه يعاني الأمرّين، سرّاً وعلناً، من وطأتهما غير القابلة للاحتمال.

لن أصدّق أن بعضنا سيظلّ يلوذ بإيران، وبعضنا سيظلّ يلوذ بالسعودية، وبعضنا سيظلّ يلوذ بسوريا، وبعضنا سيظلّ يلوذ بإسرائيل وتركيا وروسيا والصين وأميركا وأوروبا، وقد – قد - لا أجد أحداً إلاّ في النادر النادر يلوذ بالدولة، بالدولة اللبنانية.

لن أصدّق أننا غداً سنكون أكثر سوءاً من اليوم، وأننا بعد غدٍ سنظلّ نترحّم على يوم غد.

لن أصدّق أن الشِّعر، الشِّعر نعم الشِّعر، لن يظلّ يكون أستاذ الأمل في حياتنا، وأن أشعارنا ورواياتنا وسينمانا ورسومنا ومنحوتاتنا ومسرحياتنا وفنوننا وأحلامنا وأفكارنا وأخلاقنا لن تستطيع أن ترجّف كلّ هذه وهؤلاء.

لن أصدّق أن أبناءنا لن يستطيعوا أن يصنعوا معجزة التغلّب على هذا الواقع اللبناني الأبوكاليبتي المخيف.

لا قوّة في الأرض ستجعلني أصدّق ما لا يمكنني أن أصدّق أني أعيشه كلّ يوم، وأعاينه، وأعانيه كلّ يوم، وأن هذا كلّه سيظلّ جزيتنا الأبدية.

لن أصدّق أنّي أصدّق ما أصدّق. وأنّي "مضطرٌّ" اضطراراً عقلانياً وموضوعياً إلى الترحّم على "العهود الاستقلالية" و"العهود الانتدابية" و"العهود الاحتلالية" على السواء التي حكمت لبنان.

وقد أُجَنّ، من جرّاء ذلك.

وقد أموت قهراً وغمّاً، من جرّاء ذلك أيضاً.

وقد أموت، واقعاً وفعلاً، من جرّاء ذلك كلّه، أيضاً وأيضاً وأيضاً.

لكنّي لا أريد أن أصدّق.

لن ولن أصدّق.

[email protected]




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم