الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

"كفرناحوم" لنادين لبكي: العالم يشهد على مآسي لبنان في مهرجان كانّ

المصدر: "النهار"
"كفرناحوم" لنادين لبكي: العالم يشهد على مآسي لبنان في مهرجان كانّ
"كفرناحوم" لنادين لبكي: العالم يشهد على مآسي لبنان في مهرجان كانّ
A+ A-

طفولة مُعذّبة، عمالة أجنبية تسيء معاملتها، بؤس، عنف أسري، زواج قاصرات، اتجّار بالبشر… هذا كله تدحرج دفعة واحدة على رؤوسنا ونحن نشاهد أحدث أفلام #نادين_لبكي، “كفرناحوم”، الذي عُرض مساء أمس ضمن مسابقة #مهرجان_كانّ السينمائي في دورته الحادية والسبعين (٨ - ١٩ الجاري).

عشية ختام عروض الأفلام التي تتسابق على “السعفة الذهب”، قدّمت المخرجة اللبنانية فيلماً مأسوياً، هو الأشد إيلاماً وعبثية وشجناً وغضباً من بين كلّ ما شاهدناه طوال الأيام العشرة الأخيرة. فيلم تلفّه السوداوية، فلا يحاول حتى البحث عن أيّ مَخرج للوضع الذي نحن فيه في لبنان (ميكروكوزم للشرق الأوسط؟). وإذ لا يحاول، فلأنّه يعي بأنّ كلّ الطرق تؤدّي إلى مكان واحد: اليأس.

هكذا ترى لبكي لبنان في ثالث أفلامها الروائية الطويلة. هذا البلد العصيّ على التغيير. بلد بلا وجه. مشوّه، حقير، بلا رحمة. شتّان بين وطنيات “وهلأ لوين؟”، والمحبرة التي تغمس فيها المخرجة ريشتها هنا. أشياء كثيرة حدثت منذ ٢٠١١: ربيع لم يمر من هنا كما في عواصم عربية أخرى، أزمة نفايات، انتخابات فاشلة. الأولويات تغيّرت. ولعل أهم ما حدث للبكي انها انتقلت من مرحلة تقديم الحلول إلى طرح الأسئلة. بهذا المعنى، “كفرنحوم” أكثر نضجاً من كلّ ما سبق.

الفيلم بأكمله مُحمّل على الكتفين الهزيلتين لصبي في الثانية عشرة يضطلع بدوره “معجزة” تمشي على قدمين (السوري زين الرفيع). زين يتحدّر من عائلة وبيئة ومحيط قاسٍ وبائس، ضحيّة أوضاع اقتصادية معدومة وأهل بلا مسؤولية ووعي اجتماعي غائب وسلطة ناقصة. ليس عند هذا الصبي مَن يلجأ اليه، مَن يستشيره أو مَن يمد له اليد. لا مرجعية أخلاقية يستند إليها. زين مدخلنا إلى “عالم” لا نعرفه: العشوائيات وأطفال الشوارع وفوضى العيش والتلوّث السمعي، أي كلّ تلك الأشياء التي نخلّها بعيدة جداً، وهي في الحقيقة على رمية حجر.

لا يمكن إنقاذ أي شيء في هذه اللوحة التي يرسمها الفيلم بألوان قاتمة شاجبة. لا مكان للحبّ والعطف والأمل هنا، لا مكان للطفولة والأمومة، للتربية والحنان، لا مكان للخلاص والتوبة، للكرامة والفرح.

ذات يوم بعدما يغادر زين بيت أهله ليصبح شريداً، يتعرّف إلى أثيوبية (يوردانوس شيفراو) تخفي في بيتها طفلها الذي يعتبره القانون غير شرعي. الطفل لا تعترف به السلطة (غير الحاضرة سوى للعنف والمحاسبة والانتهاك)، أما زين فينكره المجتمع بأكمله. والطفل مشروع زين في المستقبل القريب. فتتقاطع مصائر “غرباء” يتشاركون قطعة أرض واحدة، وأحياناً يجد أحدهم في الآخر الخير الذي لا يعثر عليه في الذين تربطه بهم صلات الدمّ.

هذا في ما يخص النيات التي تكلّفت بجزء كبير من هذا الفيلم وأوصلته إلى حيز الأمان. أما السينما، فبحثٌ آخر قد يفتح نقاشاً أوسع وأكثر تعقيداً. مرة جديدة في السينما اللبنانية، كما عند لبكي، نحن أمام فيلم سياسي بلا بُعد سياسي. بيئة بلا أنثروبولوجيا، مدينة من دون عمق، بشر بلا امتداد، حد أنّ مجمل الفيلم يمنح الانطباع أنّه يعوم في الفضاء، وهذه مشكلة نصّ في المقام الأول. كان يمكن هذا المكان الذي من المفترض أنّه بيروت أن يكون عشوائيات البرازيل أو الهند أو مصر، فلا خصوصية تربطه بلبنان. الصورة التي ترسمها لبكي لبيروت ستكون حتماً محور أخد وردّ عند عرضه في لبنان. كثر لن يجدوا أنفسهم في هذه الرؤية المكانية. إلى هذا الحدّ هجرناها ولم نعلم؟ أو أننا فقدنا القدرة على النظر؟ أو صرنا نعيش حالة نكران؟

الخطاب السياسي الذي ينطوي عليه الفيلم يجسّد نمطاً توافقياً سهلاً، كونه لا يدخل في مسائل سجالية، إلا أنّه، كلام حقّ يُقال: فلبكي خفّفت كثيراً من حدة الديماغوجية التي كان من الممكن أن تمسك الفيلم وتقضي عليه. فهي التي تعمل على مبدأ انتقاء موضوع والاشتغال عليه، اختارت هنا موضوعاً هو بمثابة فخّ لكلّ مخرج، إلا انها عرفت كيف تتجوّل في حقل الألغام.

البشر الذين يمسح الفيلم عذاباتهم، فرغم راديكاليتهم، هم أيضاً توافقيون. فلا ندخل في تفاصيل انتمائهم، لا شيء يؤكد انتماءهم اللبناني ولا شيء ينفيه. ربما لأنّ “كفرناحوم” فيلم يحاول أن يقفز إلى حالات جماعية لمعانقة بشر وقضايا أبعد من الواقع اللبناني. على صعيد المعالجة، فعلى الرغم من كلّ الصخب الذي يحيط بها، يذهب الفيلم إلى المواجهة خطوة إلى الأمام خطوة إلى الوراء. النصّ بأكمله هجوم وانسحاب يستمران على موضوعات عدة.

الفيلم يمنح وجهاً لكلّ شخص من هؤلاء الذين يعشيون في المجتمع كظلال وأشباح، بيد أنّ المشكلة أنّه يحمل أكثر من بطيخة في يد واحدة. ولا رغبة لمعالجة أي من القضايا المطروحة في نصّ هو بصري قبل كلّ شيء، يمشي كزومبي، وتعبره لحظات ذروة. سيناريو ضعيف هذا الذي أفلمته لبكي (كتابة جهاد حجيلي، ميشيل كسرواني، نادين لبكي بالتعاون مع جورج خباز)، وهو نقيض مقاربتها البصرية. فما نراه ونعيشه ونلتقطه بحواسنا وعواطفنا وعلاقتنا المباشرة بالأشياء، أكبر شأناً من المضمون الذي يبقى عاماً في غياب التفاصيل. بعضنا خرج من الفيلم حائراً: أحببناه أم لم نحبه؟ السينما في الغالب تتجاوز هذا التقويم، ولكنّ الانفعال عندما يصعد إلى الرأس، يسيطر عليه ويتحكّم به.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم