الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

من نافذتي "النقابية" في جنيف كنتُ أُطِلّ على أزمات لبنان

غسان صليبي
من نافذتي "النقابية" في جنيف كنتُ أُطِلّ على أزمات لبنان
من نافذتي "النقابية" في جنيف كنتُ أُطِلّ على أزمات لبنان
A+ A-

نافذة غرفتي في الفندق، تطل على مدخل محطة القطار في وسط المدينة في جنيف. بشر من كل الجنسيات يدخلون ويخرجون بإخاء وحرية. حركة متواصلة ليل نهار، وبانتظام لا يعكر صفوه طارئ . 

محطة الباصات ايضا هناك. باصات بأرقام وباتجاهات مختلفة، تؤمّن حاجات التنقل الكثيرة. يجمع بين الباصات انها تصل جميعها على الوقت وبحسب ما هو معلن. ينتابك شعور بأن كل شيء يسير "متل الساعة" في جنيف، هي المشهورة بصناعة الساعات.

حركة المشاة والسيارات لا تقل انتظاما. الإشارات الثلاث هنا للمساعدة: الاخضر يقول لك تقدم، البرتقالي تمهل، والأحمر توقف. ابتكار مجتمعي لتنظيم السير وتفادي الاصطدام والحوادث، يحفظ حق التنقل للجميع وبالتساوي مع الحرص على استمرار عجلة الحياة بين توقف وتقدم. هل هي هذه الخصائص "الديموقراطية" التي تمنع احترام الإشارات عندنا؟

الدور الوسطي في العملية هو للون البرتقالي: وانت تتقدم، لا يمكنك ان تتوقف فجأة من دون مرحلة من التمهل. البرتقالي يؤشر إلى مرحلة تراجعية تؤدي حكما إلى التوقف. وحيث ان المناسبة في لبنان، كانت مرور سنة على انتخاب الرئيس عون، تمنيت لو ان هذا العهد "البرتقالي" لا يلعب هذا الدور التراجعي كما في الإشارة الضوئية.

من نافذتي، وانا جالس إلى طاولة اكتب، رحت أفكر في ما سأقوله عن الربيع العربي في حضور نحو الف شخص من دول العالم، ومن على طاولة مستديرة، دعيت للمشاركة فيها، في اطار مؤتمر الاتحاد الدولي لنقابات الخدمات العامة .

هل اقول انه مات؟ هل ماتت الثورة الفرنسية بعد مرحلة الاستبداد الذي مارسه روبسبيير ونابوليون؟

هل مات "الربيع الاوروبي" بعدما عاد حكم الملكيات مطيحا الثورات الديموقراطية التي عمت اوروبا بعد 1848؟

سأقول إن الربيع العربي معتقل، وهو كذلك، في سجون الأنظمة العسكرية او في أقبية الاصوليات المذهبية والدينية. سأقول ايضا، إنه في منطقة يحكمها الاستبداد، من الصعب توقع مواقف الناس وآرائهم الحقيقية. لذلك لم يتوقع أحد الربيع العربي ولم تحسن التحليلات مسبقا تلمس ما حل به، وهي لن تنجح في معرفة ما سيؤول إليه الوضع غدا. إضافة إلى دور القوى الإقليمية والدولية التي تتحكم عبر المال والسلاح بمصير شعوب المنطقة.

لن انسى بالطبع ان أؤكد ان الربيع العربي اعلن بقوة وبصراحة لا لبس فيها: الانسان العربي ليس مختلفا عن البشر الآخرين، بسبب دينه وبسبب عاداته، وهو يطمح إلى الحرية والديموقراطية، وتعزّ عليه الكرامة الانسانية، مثله مثل كل الناس .

لكني سأتناول ايضا مشكلات القيادة والتنظيم والمواجهة في الانتفاضات العربية، ولن أسخف او اقلل اهمية العوامل الثقافية والمجتمعية والمؤسساتية التي تعوق بناء الديموقراطية في مجتمعاتنا .

لا شك ان "التوفيق" بين الواقعية والتفاؤلية، قد ساهم في دفعي إليه، بعض الإنجازات العربية في المؤتمر النقابي الدولي .

لقد أقر المؤتمر بالاجماع قرارا حول فلسطين يدعو إلى بناء "دولة فلسطينية مستقلة تقدم خدمات عامة نوعية لمواطنيها" والى تنظيم مؤتمر دولي نقابي من اجل فلسطين وتحت هذا الشعار، تعقبه حملة دولية.

النقابات الأميركية أيدت القرار الذي يندد بتوافق ترامب- نتنياهو ضد حل الدولتين، ويطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن الذي يدعو إلى وقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات. هذا الإجماع النقابي الدولي الذي كان متوقعا بسبب نجاح "ديبلوماسية" النقابات الفلسطينية، دفع بالوفد الإسرائيلي إلى مقاطعة المؤتمر .

الانجاز الآخر هو موافقة المؤتمر بالإجماع ايضا، على اعطاء الاولوية لدعم "النقابات المستقلة" من اجل البقاء والتطور، وذلك في وجه محاولات الأنظمة الاستبدادية العربية ، للقضاء عليها ومنعها من العمل.

يذكر أن النقابات المستقلة هي النقابات التي نشأت باستقلالية عن الانظمة السياسية العربية وعن الاتحادات الوطنية التابعة لها .

أهمية الموقف أنه يرفع قضية "النقابات المستقلة" إلى مستوى "الظاهرة النقابية التقدمية الأبرز" منذ عقود، في مقابل رجعية النقابات والاتحادات الرسمية وتبعيتها، التي تعودت الاتحادات النقابية الدولية للاسف التعامل معها دعمها، كسلا او تواطوءا او قصورا في مستوى نضاليتها .

غادرت نافذتي وخرجت اتنشق الهواء البارد والنظيف، في يوم جميل ومشمس. توجهت إلى مقهى "willi's" في شارعMont blanc" ". كعادتي انتقلت من هناك إلى مكتبة "Payot" لمتابعة المستجدات الفكرية. كانت الغصة في انتظاري، فالمكتبة مقفلة كأنها انتقلت إلى مكان آخر. هذا على الاقل ما وددت اعتقاده، فلم اتحمل حتى الظن ان ظاهرة إقفال المكتبات، يمكن ان تكون قد وصلت ايضا إلى هناك.

ما ان وطئت قدمي أرض المطار عائدا إلى بلدي حتى اعلمني أحدهم ان الرئيس الحريري قدم استقالته من رئاسة الحكومة ومن... السعودية. في اللحظة نفسها خطر في بالي ان السيد حسن نصرالله قد يجري سريعا مشاورات "ملزمة" في شأن تعيين رئيس جديد للحكومة وفي... إيران. حكومة ربما لن تبصر النور الا بعد حرب جديدة تعدّ لها إسرائيل.

السيد نصرالله اذكى بالطبع من ان يقوم بذلك، وهو واجه الحدث بتروٍّ وحكمة. لكن الحنكة من هنا والتخبط من هناك، لا ينفيان تبعية الطرفين للمحاور الاقليمية. وهنا مكمن الأزمة الوطنية والأخطار الجمة المترتبة على ذلك .

قلت في نفسي، بحزن وغضب، سنعود حثيثا الى معزوفة "سنّي - شيعي" وصداها المرحلي "مسلم - مسيحي" وصدى صداها الملحمي "لبناني - سوري".

وددت لو اعود فورا إلى "اهلي" في النقابات، في فلسطين ومصر والجزائر وتونس والبرازيل وتشيلي وجنوب افريقيا والسنغال وفرنسا والمانيا وكندا والولايات المتحدة وماليزيا والهند وغيرها من بلدان العالم.

وددت لو اعود لاناضل معهم من اجل الحريات النقابية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها مثل الفلسطينيين والاكراد، وكذلك من اجل حقوق النساء والعمال المهاجرين والمثليين وغيرهم من الفئات التي تتعرض للاضطهاد .

وددت لو اعود إلى نافذتي في جنيف، لاشاهد مجددا بأمّ عيني الدامعتين، كيف ان الشعوب تتلاقى أو تفترق، بحرية واحترام وسلام، بعدما تقاتلت عقودا، باسم الدين والأجناس والاوطان.

: باحث ونقابي دولي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم