الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

عاصي الرحباني في ذكرى غيابه: باني الحقيقة بالخيال نضجت أقماره غضباً وحبّاً ونقاء

المصدر: "النهار"
Bookmark
عاصي الرحباني في ذكرى غيابه: باني الحقيقة بالخيال نضجت أقماره غضباً وحبّاً ونقاء
عاصي الرحباني في ذكرى غيابه: باني الحقيقة بالخيال نضجت أقماره غضباً وحبّاً ونقاء
A+ A-
اقول عاصي الرحباني وحدسي يكلمني بالمثنى، بالعائلة الرحبانية، فالذكرى ذكرى عاصي احوطها بالعناية الكلية ليطول قدر من امسك المشعل مضاء ومنع شعلته من الخمود: فيروز، زياد، منصور والاخرون. كأني في الرجوع الى عاصي، في اشعال قناديل ذكراه، في لَمّ ذكريات مبعثرة في البال، تائهة في ظلال الايام، اكشح غمامة عن امس من لبنان كانت مواسمه اقمارا ناضجة، تنحني ليسهل قطافها. كانت اسطورته حقيقة نتفيأ تحت اغصانها لنخصب ونستزيد عطاء. كأني وانا اجوب هذا المقطع الرحباني من الوجود وانتقل على خصلات لحن، على بيت، على حوار، بين بعلبك والبيكاديللي والارز، والخيال مسرع على اثلام اسطوانة قديمة يرحل بالسمع الى المشهد والصورة، يستحضر وجوها ويسن الانتباه الى الآهات، الى ال"يا عين"، كأني اسعى الى الذي ترك الطفولة ترتع حرة على ملعب وجهه، في ضحكته، في شرارات عينيه، في سباقه مع الريح، مع الثلج، ممتطيا صهوة عبقرية تلقاها بفطرة المختارين للخلق والابداع. وحين يسرج خيل المغامرة الكبرى نكون مكسوين بشعاع قمر، متأهبين، وعلى كل جبين نجم، ننتظر عملا بطوليا وقعته سماء بعلبك باسم فيروز والاخوين رحباني. كان عاصي وعصا الاوركسترا في يده كفارس اصيل، كزنبق البراري الشامخ المتألق شفافية. وكانت الموسيقى المكتوبة للمجد، للقهر، للهزيمة، للانتصار، للحب المستحيل، للوعد، تفلت من اصابعه طرية، ودودة، في موعد مع ناس المسرحية وكواكب المدى والنيازك الهاربة. كانت العائلة الرحبانية طمأنينتنا والوعد المنتظر. نسمع لمامات من الحدث الغنائي تشق دربها الينا همسا، قبل اشهر، ولا نكتفي. كان الرحابنة همنا وطمأنينتنا وسلوانا والاغنية التي نحاول تردادها في خلواتنا بعد فيروز ونصري ووديع وايلي و... كان الرحابنة وطننا، والفيلسوف - الطفل الذي لا يشيخ. في بعض لقاءاتنا بهم كنت استمتع بطرافة عاصي، بطفولته الدائمة، بحنانه. كان هو ذاته بين عالمه الفني والناس، ثائرا على الكذب، على الشر، على الحكام، غاضبا ضد الظلم والجور، ثم تتفكك عقد جبينه لنسمعه شاعر الورد ومساكب الحبق والفل. عاصي الرحباني ذو القلب المدوزن نبضا على الحب الاقصى او الغضب الاكبر ودوما الطفل المرصود لتشييد عالم على قياس الحق والبراءة والاسطورة. اكتب عن عاصي الرحباني وانا تحت وطأة حب شديد، رديف لمعنى الحياة الملتهبة لا الخامدة. فكأني انده ذاك الصوت الذي اسر هياكل بعلبك وذكر غابة الارز بخلودها فتعالى فتيا نقيا، أعلى من التاريخ، متصادقا مع الريح، مكسوا بظل النجوم: فيروز. مي منسى يسكنني ولن يرحل انه امامي، دائم في كل ما صنعت. ثمة لحظات خارجة عن العقل اهم فيها لاستشارته في كلمة، في لحن. يسكنني عاصي، ولن يرحل مني. اطلق عاصي حلما كبيرا في حجم الحقيقة والمعاني الانسانية، كساه شعرا والحانا. صغيرين، كنا عاصي يخترع اخبارا ليسليني. اخباره كانت دائما غريبة، ناسها غريبو الاطوار والاطباع. يخلق لي شعبا طيبا مسالما ليس فيه شر. منذ طفولته كان مبدعا مبتكرا، يخلق ناسا تسودهم عدالة ومحبة. كنت اصغي اليه، اصدقه، وتكبر في رأسي الاسئلة وتتزايد في مخيلتي الوجوه. ذاك ما يفسر كثرة الشخصيات التي حفل بها مسرحنا. اني مصاب بالحنين تجاهه، لكني لا اعرف ان امنطق الاشياء. اشتغل بالحدس اكثر. لكني اعلم انه موجود في كل لحظة. تفاعلنا حتى الاندماج التام. عاصي وانا كنا نعيش معا مذ فتحت عيني على الدنيا، حتى فراقه لي. كنا نحكي همومنا. لم نكن نتحادث في مشاكل يومية تافهة بل نسأل من اين اتينا والى اين ذاهبون. هل كان عاصي رؤيويا؟ ان يقصد النبوءة كأشعيا على تلة؟ كلا. كتب وسط مناخ معين وشعور غامض يرى المستقبل انما في طريقة غير واضحة. عاصي "اخو شليتي" مثل سقراط. منطقي كبير. "ابو زياد المنطقي" كان يقول عن ذاته. رؤيويته هذه رؤيوية الشاعر والموسيقي والموهوب. منصور الرحباني العالمية في معناها الصحيح الحديث عن عاصي، من اي جانب، يطول كثيرا. لهذا سأكتفي بالتلميح الى جانب معين يتعلق باعمال عاصي الفنية وهو: اذا كان عاصي في انتاجه الشعري والموسيقي والمسرحي قد دخل نطاق العالمية ام لا. ومن قال "عاصي" في هذا الباب فقد قال "الاخوين رحباني" او قال عاصي ومنصور" معا. كل عمل فني محلي صادق واصيل وجميل تتوافر فيه الشروط الغنية في المادة والصورة ايا كان مصوره من حيث المكان والزمان هو عمل عالمي بأدق المعاني. وعلى هذا نقول ان اوسع الشعراء عالمية هم اقدهم خصوصية واصدقهم ذاتية واكثرهم محلية. ومن ابلغ الامثلة الشاعر المسرحي العظيم راسين وما يقال عنه يقال في بايرن والمتنبي وطاغور وامثالهم. وما يقال في الشاعر يقال في الموسيقي والروائي والرسام. وعلى هذا اقول ان في معظم اعمال عاصي ومنصور الشعرية والموسيقية والمسرحية وفي ما اغترفاه من الذاتية والنصوصية واستوحياه من التراث المحلي والبيئة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والثقافية، وفي ما اضافاه الى هذا التراث نابعا من معينه، ومما يوحي أن الفن الحق والحياة متلازمان في ذات الفنان، وأن الحياة تبث كل ايقاعاتها الظاهرة والغنية في الفن عموما وفي الشعر خصوصا، حيث يشعر المتلقي باضطراب العاشق وحلم المسافر وامل الموعود وثورة المقهور ورائحة الارض وحنان تشرين، ويحس التكامل بين الاجزاء والتفاعل بين الاحياء والاشياء وارتباط الارض بالسماء... اقول ان في معظم اعمال الاخوين رحباني من العالمية بمعناها الصحيح اضعاف ما في الكثير الكثير من الاعمال الواردة الينا من الخارج. عاصي ومنصور من اوسع الحدائق التي انبتت الجمالات الفنية العالمية في لبنان والشرق كله. جورج جرداق القدر ساقني إلى الضوء الرحبانيان كانا حلمي الكبير. كنت وانا في ريعان عمري اتمنى لو يسوقني قدري الى الضوء، الى المسرح، الى الاغنية الرحبانية، واكون...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم