الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

الوعي منتجاً ثقافة الانتقاء الطبيعي لاستيعاب الابداع وتحطيم الأزليات

المصدر: "النهار"
موسى جابر
الوعي منتجاً ثقافة الانتقاء الطبيعي لاستيعاب الابداع وتحطيم الأزليات
الوعي منتجاً ثقافة الانتقاء الطبيعي لاستيعاب الابداع وتحطيم الأزليات
A+ A-

يعرّف هيغل الثقافة "بأنها حركة الفكر في المفاهيم، اي ان المفاهيم الانسانية فيها حركة داخلية لا تظهر إلا بشكل بطيء. هذه الحركة الداخلية هي إنعكاس لحركة الحياة المادية، فكل مساهمة في هذه الحركة تعد شكلا من أشكال الثقافة. فعلى سبيل المثل، يساهم الفلاح والعامل والاقتصادي والرسام، في هذه الحركة عبر تدخلهم، كلٌّ بحسب نشاطه، في تفاصيل الحياة المادية".

لم تتناول تعريفات الثقافة غالبا، شرحا للأسباب التي رسمت المسار التاريخي لها، ولا للعوامل التي أنتجت هذا المسار.

يشير المنحى التاريخي الى سيطرة الميثولوجيا الروحية على الحركة الثقافية، فنرى كيف كانت جميع الانتاجات الفكرية متأثرة بالطابع الروحي السائد عند جميع الحضارات. بعد ذلك كان لإنطلاق الفلسفة الفردية والتحررية أثر في سيطرة العلوم الإختبارية على المجالات الثقافية، فكان الإنعطاف من رسوم القديسين الباكين على جدران الكنائس الى مسرح موليير الهزلي الضاحك.

إن محركات "الثقافة" عضوية ناتجة من فيزيولوجيا الدماغ، الذي هو عبارة عن شبكة عصبية من حوالى مئة بليون خلية عصبية (نورون) متصلة في ما بينها بوصلات وناقلات عصبية كيميائية. فكل تجربة نخوضها في الحياة تخلق وتقوي وصلة عصبية بين مجموعة خلايا، ومن شأن تكرار هذه التجربة تقوية هذه الصلة. في كل لحظة يستقبل دماغنا عبر الحواس رسائل يعالجها كلها في الوقت نفسه، وحاصل هذه الرسائل العصبية (الموجات الكهربائية الناتجة من اختلاف تدفق الايونات داخل وخارج الخلية) في لحظات معينة هو ما يشكل "الوعي". بتعبير أوضح ان الوعي هو حاصل مجموع الموجات الكهربائية المتراكمة، المتناغم منها والمتنافر في لحظة معينة.

كما أن الدماغ في تشكيله للوعي عبر تفاصيل الحياة، يلجأ إلى ترشيد إستهلاك طاقته والتوفير من مجهوده وتسهيل آلية عمله.

على سبيل المثل، يلجأ إلى عملية تسمى "تكملة المساحة غير المرئية"، وذلك عبر افتراض أنماط تكميلية وهمية لتفاصيل مشهد معين وذلك لكي لا يجهد نفسه بالنظر إلى التفاصيل.

هذا ما نلمسه جليا في التخصص العلمي والمهني في مجال معين كيف يؤدي الى تسهيل عمل الدماغ، تالياً إلى زيادة الإنتاجية.

الأثر الأول للآلية التي يبتكرها الدماغ في تسهيل عمله، هو اشتراك جميع الأفكار في ما يسمى "الإطار المرجع" frame of reference، أي تلك الفكرة المبدئية التي لا تقبل النقض والتي يتمحور حولها كل الإنتاج الثقافي، تالياً الحركة الثقافية. من المهم ايجاد هذا القاسم المشترك بين وصايا موسى العشر، الزمان والمكان المطلقين عند نيوتن، سرعة الضوء الثابتة عند اينشتاين، والثنائية الموجية والجزيئية الثابتة عند دي بروغلي.

المروحة الهائلة من التجارب والاحتمالات التي نختبرها، تترجم الى موجات كهربائية عديدة في الدماغ تطلقها الخلايا العصبية التي تتناغم وتتعاكس. يؤدي التعاكس الحاصل لهذه الموجات الى "التنافر المعرفي" cognitive dissonance الذي يترجم على انه حالة نفسية تؤدي الى شلل فكري وإبداعي،

 وهو ما شرحه بشكل مسهب الباحث Mahaffy, A.K. في بحثه Cognitive dissonance and it’s resolution, a study of lesbian Christians

المنشور في the journal for the scientific study of religion عام 1996. يتناول الباحث فيه عينة من 163 سيدة يعانين تنافرا معرفيا بين التعاليم الدينية والميول الجنسية.

من هنا كانت حاجة الإنسان لإيجاد إطار مرجع يقود كل الإنتاجية الفكرية ويضبطها لإنتاج وحدة أفكار متناغمة.

هذا الإطار المرجع يمكن أن يكون ذاتيا أو موضوعيا ناتجا من تجربة علمية. فأي معطى يستقبله الإنسان بغض النظر عن أهميته اذا ما تعارض مع الإطار المرجع، يؤدي الى التنافر المعرفي بإطلاق الكيميائيات الدفاعية (الأدرينالين والكورتيزول)، وهي الآلية الدفاعية التي يلجأ إليها الدماغ عندما تكون حياة الإنسان معرضة للخطر.

هذا التنافر لا تسعى الإرادة سوى لمحاربته، ومن هنا دأبت الثقافات الروحية على تقوية الإرادة عبر تكريس الوسواس القهري بفرضها طقوساً دينية تتكرر في وقت محدد، وشكليات لا يمكن تجاوزها، وذلك لفرض "إطار مرجع" قوي، تسعى فيه الإرادة لمحاربة كل ما يخالفه. فالإرادة هي المحرك الدائم الذي يسعى لمحاربة كل أشكال التنافر المعرفي بغض النظر عما اذا كانت هذه الإرادة سليمة تنشد الحقائق المطلقة أم لا (نحن لسنا في معرض هذا التصنيف).

هذا الدور الذي تلعبه الإرادة بسعيها لمحاربة التنافر المعرفي، ناتج من نظرية "الإنتقاء الطبيعي" التي تفترض أن كل ما في الطبيعة يسعى تلقائيا للتناغم مع محيطه.

اما لجهة التسلسل الزمني لتشكل الثقافة، فإن الأسباب أيضا مردها لآلية عمل الدماغ.

عندما نشاهد شخصاً يزاول نشاطا معينا في أحد الافلام السينمائية على سبيل المثل، فإن الخلايا العصبية التي تنشط في الدماغ هي ذاتها التي تنشط أثناء قيامنا شخصيا بهذا الفعل، كذلك الحالة الشعورية المشاهدة او المعيشة. السبب وراء هذه الحالة هو ما يسمى بالخلايا العصبية المرآة او الـmirror neurons هكذا يعرفها البروفسورchristian keysers مؤلف كتاب the empathic brain.

في الحقيقة إن الخلايا العصبية المرآة تترجم وتنقل بمرآتها الشعور الملازم للنشاط الذي نشاهده، وبهذه الطريقة تكون الميرورنورون ساهمت بشكل كبير في تشكيل الوعي والذكاء الجماعي والتعاوني الذي يسبق الذكاء الفردي المركب. هذا النشاط الكثيف للميرورنورون لدى الانسان في بدايات تكيفه مع المجموعة أثر كثيرا في تشكل الثقافة الدينية التي تعتبر ترجمة شعورية وعاطفية لكل ما يحيط به.

مشاهد المرتفعات والسماء والأودية السحيقة، مشاهد افتراس الحيوانات الضارية لأحد أفراد المجموعة، الضوء والظلمة، فعالية اليد اليمنى بنسب تتجاوز فعالية اليد اليسرى، الثواب في فترات وفرة الثمار والعقاب في شحها، ترجمة واقع وجود إحتمالات لا تحصى ممكن للفرد أن يقع فيها او يشاهد غيره من افراد المجموعة واقعا فيها. في هذه الفترة أنتج الوعي ثقافة الآلهة المتجسدة في الظواهر الطبيعية ثقافة أنتجت تجنيد آلاف العمال لبناء الأهرامات وتزيينها.

المرحلة التالية هي مرحلة شخصنة الآلهة وتكييفها مع صفات بشرية مطلقة ناتجة من استمرار الدماغ بالترجمة الشعورية للمحيط. بالاضافة لبدء مراكمة المعلومات وتخزينها وتحليلها، لإستنتاج انماط فكرية متكررة وذات نتائج واحدة. كل هذا مع بقاء الإرادة الحارسة للميثولوجيا الدينية في محاولة لتغليب النظرة الدينية الشاملة، التي تستطيع تفسير كل الظواهر على النتائج العملية المستنتجة جراء التحليل والاختبار العلمي البسيط.

أمام الإحتمالات اللامتناهية كان اللجوء للميثولوجيا أمرا حتميا ومساعدا، فالنجوم في السماء لم تعدُ كونها خلفية تزيينية وليست أكوانا مهولة. أما في الخلفية الثقافية فاستمر "الإطار المرجع" بالهيمنة محروسا بالإرادة المتسلطة وكل تغيير طفيف يطرأ عليه كان يكلف آلاف القتلى رغم بساطة التباين بين المتنازعين.

رغم تسيَد الديانات للمشهد الثقافي واستمرار تقديمها التفاسير العشوائية للظواهر الطبيعة، تفتحت رؤية الأب برونو الذي أمرت بحرقه ومؤلفاته الكنيسة الكاثوليكية في روما، الذي استنتج ان الكون لامتناهٍ وأن الأرض كروية الشكل وليست مركز الكون.

وعليه كان لتراكم المعلومات المستخلصة من التجارب المادية، الأثر في اعتماد القواعد العلمية لتفسير الكثير من الظواهر عبر الميكانيك المعقدة والقواعد الكيميائية.

مع تزايد الغوص والتقدم في العلوم الإختبارية بدأ دور جديد للإرادة الانسانية بالظهور ساعيا لتناغم اكبر مع الطبيعة.

كانت النقطة المفصلية، عندما وعت الإرادة أن الإحتمالية الكبيرة جزء من النسيج الكوني، وأن الحقيقة تكمن في فهم هذه الإحتمالية واستيعاب الابداع الذي تخلقه والحاجة لتخفيف جمود الإطار المرجع وقهريته وتحطيم كل ما هو ازلي. هذا الوعي هو الذي انتج ثقافة الانتقاء الطبيعي والنظرية النسبية والفيزياء الكمية.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم