الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

لوكا بلفو يحاكم الأحزاب المتطرّفة عشية الانتخابات الفرنسية: الفاشية تتغذّى من الخوف

المصدر: "النهار"
لوكا بلفو يحاكم الأحزاب المتطرّفة عشية الانتخابات الفرنسية: الفاشية تتغذّى من الخوف
لوكا بلفو يحاكم الأحزاب المتطرّفة عشية الانتخابات الفرنسية: الفاشية تتغذّى من الخوف
A+ A-

في مهرجان روتردام السينمائي الأخير، اتيحت لي فرصة مجالسة المخرج البلجيكي لوكا بلفو الذي جاء إلى المدينة الهولندية ليقدّم “في أرضنا”، أول فيلم يستدرجه إلى كلام مباشر في السياسة، هو الذي عوّدنا على معالجة ضمنية لقضايا اجتماعية مع أفلام مهمّة مثل “حجّة الأضعف”. من خلال عمل روائي موثّق جداً، يدين بلفو، الغاضب أعلى درجات الغضب عشية الانتخابات الفرنسية، أساليب الأحزاب التابعة إلى أقصى اليمين لإقناع ناخبيها. وفي مقدّمها، الجبهة الوطنية التي يستوحي من رئيستها #مارين_لوبن الخطوط الكبرى لرسم شخصية خيالية تُدعى أنييس دورجيل (كاترين جاكوب) تتزعم حزباً اسمه “التجمّع الشعبي القومي”. هذا الحزب يقنع ممرّضة ليبرالية (بولين - اميلي دوكين) بالترشّح للانتخابات البلدية المقبلة. يغويها الخطاب المشبع بالهَمّ الاجتماعي والوعود بتحسين الظروف المعيشية للطبقة العاملة، قبل اكتشافها تدريجاً أنّ هذا النوع من النضال لأجل إحقاق العدالة يتناقض مع تربيتها ومبادئها.

فور طرح الفيلم في الصالات الفرنسية في ٢٢ شباط الماضي، سارعت الجبهة الوطنية إلى فتح النار على بلفو واتّهامه بالإفادة من أموال الضرائب لتمويل هذا العمل وتسويق حملة بروباغندا ممنهجة ضد طرف من الأطراف المتصارعة على الحكم. يصرّ بلفو على أنّ توقيت عرض الفيلم ليس بريئاً، فهو يطمع إلى المشاركة في النقاش الدائر. “من المهم بالنسبة إليّ إعادة تذكير ما هي الجبهة الوطنية. توقّعتُ هذا النوع من الردود. هم يعلمون جيداً إنّهم لا يستطيعون منع الفيلم، ولكن أرادوا القول لناخبيهم ماذا ينبغي أن يكون رأيهم به حتى من دون مشاهدته. هذا حزب توتاليتاري”.



بعيداً من أي رغبة في وضع “في أرضنا” على مشرحة النقد والتحليل، اتّجه الحديث مع بلفو إلى الأوضاع الحالية انطلاقاً من المادة التي يوفّرها الفيلم. فبلفو أراد عبره تسجيل موقف أكثر منه إنجاز تحفة سينمائية. يقول إنّ سبب غضبه هو رؤية حال أوروبا اليوم: “أشعر بالمسؤولية تجاهها، كوني مواطناً أوروبياً سمح بصعود ايديولوجيات مماثلة في بيئتنا”. ولكن، أليس هذا كلّه ردّ فعل متوقع على كلّ ما يحصل في العالم؟ سؤال يملك عليه بلفو إجابة جاهزة: “هذه التيارات اليمينية عمرها أكثر من ٣٠ عاماً، منذ الثمانينات وهي تزداد شراسةً. هل هي #سوريا التي تساهم في صعود الجهبة الوطنية؟ لا أعتقد ذلك. لا شكّ أنّ سوريا غذّتها، ولكن إذا انتبهتَ جيداً، فالفاشية تتغذّى من كلّ شيء. وتزدهر في البيئة التي يغلب عليها الغضب والخوف من الآخر، أو حتى الخوف من عدم القدرة على الاستجابة لأبسط المتطلبات”.

يرفض بلفو التأكيد على الرأي القائل إنّ التنوّع الثقافي فشل في أوروبا، وكلّ سياسات دمج المهاجرين لم تثمر، خصوصاً في بلدان مثل ألمانيا وفرنسا. “لستُ متأكداً من صحّة هذا الادّعاء. تختلف المسألة وفق البلد الذي نتحدّث عنه. ليست أوروبا كلها كتلة واحدة. كلّ دولة لها خصوصيتها. تاريخ الشعوب والبلدان يتقاطع ولا يتشابه. #فرنسا مثلاً لم تخرج كلياً من ماضيها الاستعماري. لا تزال لحرب الجزائر آثارها. على سبيل المثال: روبير مينار، عمدة بيزييه، المقرّب من الجبهة الوطنية، لا تزال حرب الجزائر تشكّل عنده هاجساً. عائلته أفرادها من المستوطنين الفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر، وغادروها في العام ١٩٦٢. بالنسبة إلى هؤلاء، كان الاستقلال دراما إنسانية حقيقية، وأتفهّم ذلك. بعد ٥٠ سنة، أعتقد أنّه آن الآوان للقول إنّ إنهاء الاستعمار كان ضرورياً. هذا مجرى التاريخ، يجب تقبّله. المأساة أنّه توجّب المرور عبر حرب. اعتبارهم ضحايا التاريخ لا يمنحهم الحقّ في جعل مغاربة فرنسا يدفعون الثمن. العالم تغيّر، نحن في واقع مختلف الآن”.



في الحديث عن الإسلام، يبرّئه بلفو من أي مسؤولية، متماهياً مع مواقف بعض اليسار الأوروبي الذي يحلو للبعض تعريفه بـ”اليسار الإسلاموي”. وأمام إشارتي إلى أنه ثمة حتى في العالم الإسلامي اليوم، أصوات تنادي بالإصلاح الديني ومراجعة النصوص الداعية إلى العنف، يتردّد المخرج الخمسيني قبل أن يخرج بالردّ الآتي: “بعض فروع الإسلام هي السبب ربما. حتى في عصر الأنوار، كان ثمة ظلاميون. شخصياً، أنا ملحد، وأؤمن بعلمانية تُطبَّق بصرامة. هي السبيل الوحيد إلى السلام والاستقرار في البلدان التي تؤوي أدياناً عدة. في فرنسا، وُجد الحلّ للكثير من المشكلات من خلال اللائيكية. ليس للدولة أّيّ دين. الدين شأنٌ شخصي. لا أحد يفرض عليك عقيدته وإيمانه…”.

“أحدٌ لا يفرض عليك عقيدته، خلافاً لما يحصل في البلدان الإسلامية، أليس كذلك؟”، أذكّره بشيء من اللؤم. “أعي ذلك. العالم الإسلامي في حاجة إلى لائيكية. مع ذلك، لا أعتقد أنّ مشكلتنا هنا هي الإسلام. يجب إيجاد محل له داخل المنظومة العلمانية. أقصد أنّ كلّ شخص حرّ بما يفعله في منزله، ما دام أنه يخضع للقانون الفرنسي ولا يخالفه، ولا يروج لختان الإناث أو تعدّد الزوجات، إلخ. قانون الجمهورية يطبَّق على الجميع، سواء كان يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً، ويحمي الجميع في الوقت عينه. الأمور بهذه البساطة. لكن هناك مَن يستحضر أحقاداً قديمة لإثارة النعرات ويفرض على الآخرين وجهة نظره. هناك أيضاً مسلمون علمانيون، لا تنسى. ولا تنسى كذلك أنه قبل سنتين، أيام التظاهرات المناهضة لتطبيق النظرية الجندرية في المدارس، التقى أكثر الكاثوليك تشدداً مع المسلمين المتعصبين. بعضهم اتفق مع بعضهم الآخر. علماً أنّه صحيح كما تقول، فهؤلاء الكاثوليك هم الأقلية، أما المسلمون المتعصبون فهم الأكثرية”.

فضّل بلفو ان يموضع الحكاية في فرنسا (منطقة با دو كاليه) بدلاً من بلجيكا، لأنّ حال وطنه الأم أكثر تعقيداً من حال البلد الذي يقيم فيه منذ ٤٠ سنة. فبلجيكا من منظوره بلد مشطور شطرين، ولا يوجد فيه حزب يميني يمثل البلجيكيين. يقول ممازحاً إنّه يجهل ما المعجزة التي تحميها (“ربما زبائنية معينة”)، إلا إذا كان هذا الشيء مرتبطاً بنتيجة التعامل مع النازيين الذي لا تزال أصداؤه ماثلة في بلجيكا أكثر منها في فرنسا. “كان لدينا عملاء اشتهروا بقسوتهم، ولكن لم يكن لديهم عدد كبير من الأتباع. هكذا هو المشهد في والونيا. في فلاندر المسألة مختلفة قليلاً، حيث ثمة إحساس عالٍ بالقومية، ويمكن نعت هؤلاء القوميين بالفاشيين الجدد، حتى إنّ بعضهم يتبنّى خطاب العمالة للنازي. كان في وسعي إنجاز فيلم في فلاندر، ولكن ليست لغتي وثقافتي. أنا مقيم في فرنسا منذ أربعة عقود. أعرف أرضيتها، ولي موقف مما يجري فيها”.




أصارح بلفو أنّ أكثر ما أعجبني في الفيلم هو عدم شيطنته للشخصيات، بل أنّه وجد ذريعة لتبرير سلوك كل واحدة منها. يوافق على هذا الطرح، شارحاً أنّ إنجاز #سينما ديموقراطية حيث الكلّ يعبّر عن رأيه هو ما يسعى إليه. ثم يعدّد ثلاثة أنواع من المنتسبين إلى الجبهة الوطنية: “الثلث الأول من الذين اشتدّت عودهم، وهم عنصريون معادون للسامية وفاشيون ونازيون. أقصى اليمين الفرنسي يجمع كلّ الأضداد، فيهم كاثوليك تقليديون ووثنيون. هذا كله في حزب واحد. من شدّة معاداتهم للسامية، بعضهم يعتبر المسيحيين يهوداً! نقرأ أشياء لا تصدَّق في عقيدتهم. هذا الثلث لا يمكن مناقشته، ولا يمكن فعل أي شيء بهم؛ منغلقون تماماً. الثلث الثاني يلتحق بالحزب لأنه يتيح الترقي الاجتماعي السريع، قياساً بالأحزاب الأخرى. بعد ثلاث سنوات من النضال، قد تتسلّم منصب مستشار في بلدية؛ المرشحون قلة، وثمة دائماً نقص في الكادرات. هؤلاء يمكن القول عنهم إنّهم انتهازيون ومستعدّون لمجاراة اتجاه الريح، فينتقلون إلى معسكر نقيض عندما تسنح لهم الفرصة. ليسوا متعصبين ايديولوجياً، حافزهم الحسّ الوطني المتضاخم ومعاداتهم لفكرة أوروبا الموّحدة. أما الثلث الأخير، فهم الناس المعذبون، هؤلاء الذين يتم التلاعب بعقولهم”.

أجرى بلفو بحوثاً كثيرة قبل الشروع في كتابة السيناريو مع جيروم لوروا. كان هناك جزء يعرفه وآخر اكتشفه تباعاً. فهو يقول إنّه منشغل بالأحزاب الشعبوية منذ زمن بعيد، يطالع عنها باستمرار في الصحف. الصعوبة بالنسبة إليه تكمن في الخروج بخلاصة عن هذه الجماعات. استخدم كثيراً الانترنت للتزوّد بمعلومات. ثمة الكثير من المدوّنات التي تكشف أفكار المنتسبين. طبعاً، كان في ودّه أيضاً التكلّم على ناس يعرفهم شخصياً ويفهم معاناتهم. “العمّال العاطلون عن العمل أو الناس الذين يتحدّرون من الطبقة الوسطى والذين تراهم يطرحون الأسئلة على أنفسهم من شدّة القلق والخوف على عائلاتهم وأولادهم ومصيرهم بشكل عام. سنة بعد سنة، يدهمهم الإحساس بأنّ المسائل تزداد سوءاً. يجب القول إنّ ما نشهده لا تستوفي شروط الأزمة. الأزمات تتحقق في فترة قصيرة نسبياً. نحن نشهد تغييراً عاماً على مستوى العالم. الأشياء تتحرّك في كلّ مكان، تتحرّك بشكل راديكالي. عالمنا الحالي لا يمتّ بصلة لما كان عليه في الستينات. رأيتُ بداية هذا التغيير مع سقوط جدار برلين. لم تعد الصراعات أو المعابر هي ذاتها، علماً أنّ بعض الصراعات لا تزال قائمة كالصراع العربي الإسرائيلي. طرأت تغييرات كبيرة على الاقتصاد، وشهدنا انتصار الليبرالية. صحيح أنّ الحدود سقطت، ولكن لم يتم تأسيس نموذج اجتماعي يتيح للناس عيشاً كريماً”.



“في أرضنا”، يتوجّه أولاً إلى الناخبين المتردّدين، لتذكيرهم بمَن قد يمنحونهم أصواتهم. المُشاهد الذي يجد نفسه في إحدى الشخصيات قد يعيد النظر في خياره. فبلفو يعتبر أنّه بمجرّد انتخاب الفاشيين، يصبح الناخب حليفاً للفاشية والنازية… “ينبغي التذكير أنّ عدداً كبيراً من ناخبي الجبهة الوطنية ليسوا لا بالعنصريين ولا بالفاشيين، هم يدلون بأصواتهم للجبهة فقط لإحساسهم بأنها تنطق باسم الطبقة العاملة. هناك مَن هو مقتنع بهذا. وهكذا في كلّ أوروبا الغربية: الناس يعتقدون بأنّ الأحزاب الشعبوية هي الوحيدة التي تنصت إلى همومهم وتلبّي حاجاتهم وفي يدها حلول سريعة لمشكلاتهم. لا توجد حلول سهلة؛ الحلول السهلة تؤدّي إلى الحرب. كلّ المتطرّفين يقترحون المواجهة، لا يوجد نقاش، إما أنتَ معهم أو ضدّهم. لديهم دائماً حاجة إلى عدوٍ في غياب أي برنامج جدّي، دائماً هم ضدّ شيء ما: حيناً تجدهم ضدّ أوروبا وحيناً ضدّ المهاجرين. هكذا يفكّكون العالم ويحوّلون المجتمع شذرات. والسينما وسيلة عظيمة لنقل لوم المُشاهد للشخصية. بدلاً من القول للمُشاهد: “أنت تصوّت للسياسي الفلاني، فأنتَ وغد”، تضع أمامه شخصاً يصوّت لهذا السياسي وتصوّر مدى حماقته، بذلك تتفادى الصِدام المباشر مع الذين ليسوا من رأيك. الحديث عن السياسة من خلال الفنّ أقل خطورة من الحديث المباشر عنها”.



حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم