الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

"حالة اشتباك" تُسمّى غسان تويني

ناصيف حتي-سفير سابق للجامعة العربية
"حالة اشتباك" تُسمّى غسان تويني
"حالة اشتباك" تُسمّى غسان تويني
A+ A-

#غسان_تويني عملاقٌ فكري واعلامي وسياسي وثقافي. عرفتُه كما عرفناه جميعاً واحببناه وقدرناه سواء اتفقنا أو اختلفنا معه في هذا الموقف او ذاك. عرفته وانا طالب على مقاعد الدراسة في لبنان، أحلُمُ مع ابناءِ جيلي بالتغيير والثورة. وغسان تويني كان دائماً محرّضاً على التفكير وداعياً للتغيير. وكما وصفتُه مرة، هو بمثابة حوارٌ ثقافي قائمٌ بذاته، يحاورُ نفسٓه بفكر نقدي قبل أن يحاورٓ الآخر. يبحثُ عن الاختلاف ليؤكدٓ اهمية وغنى التفاعل. كان معارضاً للسلطة وهو في السلطة وملتزماً الدولة ومنطق الدولة وهو في المعارضة. كان لبنانُ يومها المختبر حيث كانت تتنافس الأفكار وكان لبنان الحلبة حيث كانت تتصارع التيارات السياسية قبل ان تسقطٓ منارة العرب في "حروب الآخرين" التي لم نكن منها براء.


عرفت الاستاذ في بيروت، وتعرفت بعد ذلك شخصياً على سعادة السفير المندوب الدائم للبنان لدى الأمم المتحدة في احدى جولاته الاميركية: جولات الحوار والمحاضرات. ذهبت اليه استشيرُهُ في موضوع أطروحتي فأقنعني - ومن الصعب ان لا تقتنع برأي غسان - في اختيار موضوع ديبلوماسية حفظ السلام في الأمم المتحدة. موضوع الساعة وخصوصا بالنسبة الى لبنان. وقال لي: "شرّف الى نيويورك!". وهكذا بدأت رحلتي مع الاستاذ لأتتلمذ عليه في الديبلوماسية الدولية. وقد دفعني لاحقاً للالتحاق بجامعة الدول العربية عندما كنت اودُّ العمل في الحقل الأكاديمي في الولايات المتحدة بعد انتهاء دراستي، قائلاً لي ان تلك ستكون مجرد مرحلة في طريق العودة الى بيروت، عودة بالطبع طالت كثيراً. واذكر عندما قال مرة للصديق المشترك الاستاذ الاخضر الابراهيمي أنه هو من دفعني للالتحاق بجامعة الدول العربية، ردّ عليه سي الاخضر قائلاً:" كنت أعتقد أنك تحبُه!". فردّ غسان: "لا أريدُهُ مغترباً في الولايات المتحدة، بل موجوداً في قلب الحدث ولو مهموماً وغاضباً".



غسان تويني كان سفيراً لبلد صغير ممزّق، وفي الأمم المتحدة التي هي منتدى ومرآة السياسات العالمية تحددّ الأوزان والأحجام مكانة الدول ودورها، وبالتالي دور سفرائها. فالديبلوماسيةُ الناجحة والمؤثرة تفترضُ اساساً وجودٓ سياسةٍ خارجية مبادرة نشطة، تقوم على أولوياتٍ وتوافقاتٍ وطنية راسخة وتحمل رؤيا لموقع البلد على الخارطة الجيوسياسية ولمصالحه وقدرة على احداث توازن بين الامكانات والاهداف. لكن السياسة الخارجية اللبنانية، حتى مع وزراء كبار تولوا حقيبتها، وانا اتحدث امام احدِهِم، استاذي الدكتور ايلي سالم، كانت دائماً اسيرةٓ الحروب والصراعات في لبنان وحول لبنان. فكان المطلوبُ دائماً اتباع سياسة الحد من الخسائر وبناء توافقات اللحظة وهي توافقاتٌ هشةٌ بطبيعتها. غسان تويني استطاع ان يعطي الديبلوماسية اللبنانية ثقلاً كبيراً ودوراً محورياً لم تكن توفرها الامكانات الوطنية للبنان. لكن وزنه الديبلوماسي الشخصي برؤيته وثقافته ونشاطاته شكل القوة اللينة التي كانت قوة اساسية لدور لبنان. فكان غسان تويني موجوداً بما يمثل في قلبِ مختلف القضايا التي تعنى بها المنظمة الدولية.



غسان تويني كان ديبلوماسياً كبيراً مدافعاً عن قضايا لبنان وقضايا العرب حتى لو لم يكن في موقع ديبلوماسي رسمي. الديبلوماسية الرسمية مارسٓها لفترة قصيرة نسبياً ولكنها غنية كثيراً في حياته الزاخرة بالعطاء. الديبلوماسية عند غسان تويني حالةٌ قائمة في شخصه وفي شخصيته، في كل نشاطاته الخارجية واتصالاته المتنوعة والمتشعبة والغنية. الديبلوماسية عند الاستاذ فنٌ وعلم: فن الاتصال وعلم الاقناع وابلاغ الرسالة. الديبلوماسية ليست لغةٌ خشبية وافكار معلبة كما يراها البعض وكما يعيشُها حتى هذه اللحظة كثيرون خصوصا في عالمنا العربي، بل هي انخراطٌ خلاق واستفزازٌ مهذّب وحريةُ مبادرة وحركة في اطار الثوابت الوطنية والموضوعية. كانت تلك هي الديبلوماسية عند غسان تويني. وكانت ايضاً سحرُ الكلمة ورونقُ الاسلوب ورقيُّ المخاطبة وجرأةُ الفكر وسرعةُ البديهة ومرونةُ الحوار وغنى المضمون وسعةُ الثقافة ووضوح الرؤية وشمولية المقاربة.



علمني الاستاذ دائماً التأني في طرح الاسئلة وحذّرٓني دوماً من التسرّعِ في الاجابة. علمني فنٓ الاصغاء ومتعةٓ الحوار. تجربتُه وعطاؤه وانخراطُه في الديبلوماسية العامة، او ديبلوماسية التواصل مع كل فاعلٍ وصانعِ رأي ومؤثرٍ في صنع قرار ولو لم يكن في موقع رسمي. هذه الديبلوماسية برع فيها دائماً غسان تويني. مارسها كصحافي وكسياسي وكمحاضر وكمسؤول. وكان يحب دائماً خلق حالة اشتباك فكري وسياسي مع من هم امامه، جمهور كان ام شخص ام مجموعة اشخاص. يحب طرح الاسئلة والتساؤلات اكثرٓ من تقديم الاجوبة. يجيد فن الاقناع والبحث عن المشترك.
غسان تويني ادرك دائماً وأكّد دوماً ان غياب السلام في الشرق الاوسط وترابط وتداخل ازمات المنطقة وانسداد افق التسوية امور مكلفة وخطيرة على لبنان في وظيفتيه اللتين فرضتهما متطلبات الجغرافيا وهشاشة السياسة: وظيفة الساحة ووظيفة صندوق البريد. اذ تنعكسُ هذه الازمات على الوطن الصغير في توترات وحروب من اشكال مختلفة. غسان تويني اكّدٓ دائماً ان التسويات العادلة لقضايا المنطقة وفي طليعتها القضية الفلسطينية هي لمصلحة لبنان اساساً كما هي لمصلحة فلسطين ومصلحة العرب. فحالة اللاحرب واللاسلم قد يتحملُها الكثيرون ويتعايشون معها، لكن لبنان يدفعُ ثمن التوترات الناشئة عنها يومياً.



غسان تويني كان يدرك دائماً ان القرارات الدولية لا تنفِّذُ ذاتٓها بذاتِها، وان المطلوب توظيف كل عناصر القوة من اجل وضع هذه القرارات موضع التنفيذ. فلا يكفي ان تكون صاحبٓ حق ان لم تمتلك الامكانات الضرورية للدفع نحو تأكيده على ارض الواقع.
رجل الدولة غسان تويني اراد دائماً ان يكون لبنان محفزاً ورائداً ومبادراً في عمل ديبلوماسي عربي مشترك يقوم على توظيف الامكانات المشتركة وعلى التضامن الفعلي وليس التضامن الكلامي أو الاعلامي أو الاعلاني كما هي حال الديبلوماسية العربية المشتركة.



غسان تويني العالمي الثقافة المتمسك بجذوره وتراثه كان في حقيقة الامر عروبياً في لبنانيته، اي وحدوي، ولبناني في عروبته اي مؤمنٌ بالتنوع والاختلاف والحفاظ على هاتين السمتين في عروبة ارادها منفتحة، تضامنية، حامية وحاضنة للهويات الوطنية. كم من مرة يا معلمي، تحدثنا عن حالة الطلاق الحاصلة عند العرب بين عالم الديبلوماسية وعالم القوة. وكنت تقولُ دائماً انه اذا لم يستطع العرب او لم يرغبوا في توظيف امكاناتهم وقوتهم في خدمة مصالحهم ومواقفهم فان العملية الديبلوماسية تبقى عملية بهلوانية. كم من مرة أُحبطْنا يا استاذي وغضبْنا من مواقف او من اللامواقف التي تعبّرُ عن البؤس العربي وحالة الشقاق والانغلاق والنفاق والخروج من التاريخ.



يا ديكٓ النهار، كم نقتقدك اليوم في زمن الثورات العربية التي كانت واعدة بالتغيير المطلوب والمنشود قبل ان تخطفها استراتيجيات الكبار وفي زمن الحروب على مختلف مسمياتها التي تحيطُ بالوطن الصغير وتهددُه. لبنان الذي عليه ان يرقى الى مستوى هذه التحديات للتعامل معها بنجاح وفعالية داخلياً وخارجياً. يا ديك النهار نذكرك كل يوم ونصرخُ معك صباحٓ كلِ يوم: "اتركوا شعبي يعيش، اتركوا شعبي يعيش".


¶ كلمة الدكتور ناصيف حتي السفير السابق للجامعة العربية في حفل تكريم غسان تويني في جامعة البلمند 23-2-2017.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم