الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

فادي جانبار صوت ليريكي يحاكي المشاعر في خامة باريتون أولغا بولون مدّت ملامس البيانو سلّماً فارتقى الغناء وتدلّل

مي منسى
فادي جانبار صوت ليريكي يحاكي المشاعر في خامة باريتون أولغا بولون مدّت ملامس البيانو سلّماً فارتقى الغناء وتدلّل
فادي جانبار صوت ليريكي يحاكي المشاعر في خامة باريتون أولغا بولون مدّت ملامس البيانو سلّماً فارتقى الغناء وتدلّل
A+ A-

فادي جانبار، وإن علّق على جدران صوته كنية باريتون ليريكي خفيف، واضح هو الوتر الآخر، المتغلغل في عجنة حنجرته، التينور. تينور حقّاً لزمن الحب والشوق والرومنطيقيّة، حين ينطلق الوتر الرهيف إلى طبقات الإغراء المديدة التي تهزّ المشاعر، ليعود فيتمازج بانسجام مع توأمه الباريتوني بنزول النغم إلى المقامات الخفيضة. ففادي جانبار مغنّ باريتوني في مفهوم القواعد الأوبرالية.


الأمسية في مسرح بيار أبو خاطر، تميّزت مساء الخميس بطابعها الراقي، الأكاديمي، والشعبي. على المسرح، الثنائي البارع فادي جانبار وأولغا بولون، وفي الصالة الكبرى جمهور من كل الأعمار، جاء مستمعاً، ومتذوّقاً هذه القيمة الفنيّة الرفيعة المعطاة له مجّاناً، كعلاج شافٍ ولو لفترة ساعة، من شحتار الزمن الذي نعيش فيه. نأتي لننسى، فهل من مسكّن قادر أن يهذّب الروح والحواس، ويقتلع شوكة العنف من مسامنا سوى الموسيقى؟
فادي جانبار، اختار بإدراكه الواعي لهيكليّة حنجرته الباريتونية الواسعة، أغاني وأدواراً من التحف الأوبرالية وجمعها في سبع عشرة آية، كباقة مشكّلة من الباروك إلى النسق الرومنطيقي لتكون في هذه السهرة العذبة، جسر تواصل بينه وبين المتلقي. أولغا بولون بثوبها الأحمر الطويل كانت أكثر من مرافقة على البيانو لهذا الشاب الوسيم، الحامل في ريبرتواره الإغراء والظرافة في معدن حنجرته المصقولة بالمقامات الأوبرالية. أولغا بولون في كل مشاركة، تجعل من ملامسها، السلّم الذي تمدّه ليرتقي عليه المغني ويتدلّل على تنويساته. ففي دخول فادي جانبار حاملاً مزمار "بان" القصبي، دخلنا معه في صلب سهرة تجمع بين الأداء الراقي والمناخ المرح. جانبار كان باباغينو.
موزار ومزماره السحري كانا في طليعة القائمة. مزمار "بان" القصبي، راح ينفخ منه بضع نوطات، ناثراً في جو المسرح الاحتراف والطرافة. من أوبرا موزار اختار أن يكون بباباغينو قنّاص العصافير، منتقلاً بنا إلى الأسطورة، فيما أولغا بولون ترتقي بجناحي هذا العصفور إلى ذروة الإلقاء الموزاري السحري. الرسالة الموزارية كان لها ما تقوله بعدما رشفتنا ليريكية هذا الصوت العاشق، بأغنية فرانز شوبير العاطفيّة يشدو فيها غسق الحياة، "الظلال تتوارى/ وداعاً أيا أحلامنا/ وما بقي من أمنيات/ سوى الذكريات"، بعدها عاد مع مزمار "بان" يلقّمه نبرة من عبارة موزار، كأننا بعودته الثانية، وفي ما بعد، وفي ليونة حنجرته المطواع المنحوتة في غير لحن، عدنا وسمعناه في دور ريغوليتو من أوبرا "كوزي فان توتي" ما جعلني أعتقد أن فادي جانبار ينتمي إلى مدرسة موزار الليريكيّة. ولكن، لمَ التسرّع في اختياري له في هذه الأمسية مدرسة، هو بغنى عنها، بمجرّد إلقاء نظرة على القائمة التي بين أيدينا، الواسعة في الزمن والإنشاء الموسيقي المتحرّرة من الافتراضات المكبّلة. ففادي جانبار هو إبن هذا الكون، نحت صوته في هواء المبدعين الذين زيّنوا الكون بآياتهم. القائمة دالّة على تفتيش هذا الفنان الأصيل على ما يناسب خامة حنجرته، في ريبرتوار شاءه شيّقاً، عاطفيّاً، ظريفاً، يغري السمع بحيوية الإلقاء وأسلوب إهدائه زهرة حب عطرة إلى كل فرد في القاعة. وأي زهرة هي، فيما الورود كان يرشّها علينا مرويّة بندى حبّه الدافق في أدائه "المثال" لتوستي، و"أغنية حزينة" لدوبارك و"بوليرو" من أوفنباخ، و"ماريا" لبرنشتاين من أوبريت وست سايد ستوري. وهذا ليس كل ما أتحفنا به، بل كان متنوّعاً، رومنطيقياً، شقيّا، عاشقاً، ضاحكاً، باحثاً عن الحدث التاريخي في اقتلاعه من موسيقى الباروك دوراً مفصّلاً على أوتاره "ريشار أيا ملكي"، من أوبرا ريتشارد قلب الأسد، لكاتبها غريتي، وعاد إلى زمن الرومنطيقية بدور "ماب ملكة الكذب" من أوبرا "روميو وجولييت" لغونو، ومن دونيزتي غنى "بيلاّ كأنها ملاك" من أوبرا "دون باسكوالي". غنى بالألمانية والإيطالية والفرنسية إلى أن وصل إلى الأميركية مع "ماي فير ليدي" في أغنية "على الطريق حيث تسكنين".
في الختام عاد العصفور الغرّيد إلى زمن الباروك، ينهي لقاءه معنا بأغنية مختارة من السهرات الغنائية التي ألّفها روسيني في نهاية حياته الموسيقية. "تارنتيلاّ نابوليتانية" دعانا لنرقص معه. ورقصنا من دون أن نتحرّك من مقاعدنا، ففرح المشاركة كان له إيقاعه.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم