الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

دوني فيلنوف سينمائي كندي طموح لم تبتلعه هوليوود!

دوني فيلنوف سينمائي كندي طموح لم تبتلعه هوليوود!
دوني فيلنوف سينمائي كندي طموح لم تبتلعه هوليوود!
A+ A-

بدأنا نكتشف دوني فيلنوف مع "حرائق" المقتبس من نصّ مسرحي للبناني الكندي وجدي معوض. كان ذلك قبل ستّ سنوات. أتذكّر جيداً كيف خرج الجمهور من الصالة في البندقية بوجوه متجهمة. مذذاك، شقّ المخرج الكيبيكي البالغ من العمر 49 عاماً طريقه في السينما الحديثة قافزاً من سينما قليلة الحضور على الشاشات العالمية إلى سينما واسعة الانتشار.


انتقاله إلى هوليوود حيث أنجز أفلامه الثلاثة الأخيرة كان ناجحاً بكلّ المقاييس، وهو الآن أصبح أحد السينمائيين الذين يصعب الاستغناء عنهم. نشط، فذّ، واسع الرؤيا، مرهف الحسّ، تراه يقدّم أفلاماً أميركية بحساسية أوروبية، اذا صحّ التعبير، على أمل ان لا تقضي الطموحات المرتبطة بإنجاز فيلمه المقبل، تتمة "بلايد رانر" لريدلي سكوت، على خصوصيته السينمائية.
رغم اكتشافنا لفيلنوف مع "حرائق"، فهذا الفيلم ليس الأول له بل الخامس، اذ سبق أن قدّم أعمالاً قيل انها مهمة ولكن لم نشاهدها. يومها حظي باستحسان كبير من النقاد والجمهور لدى عرضه، حدّ ان كثيرين سألوا عن سبب عدم عرضه في المسابقة الرسمية للبندقية.
انها قصة شاب كندي وأخته يذهبان للبحث عن ماضي والدتهما التي ولدت وعاشت في الشرق الأوسط قبل ان تهاجر إلى كندا، وعرفت كل أنواع القهر والتعذيب على خلفية حرب عبثية دائرة بين أطراف متخاصمين. قصة صادمة، لا يخرج المشاهد منها سليماً لناحية التأثير البسيكولوجي الذي تمارسه عليه الحوادث، علماً ان فيلنوف لا يتوانى عن توجيه صفعة للمتلقي في المكان الأكثر ايلاماً. انها واحدة من هذه القصص التي سمع عنها كلّ واحد منها، لكن السينما لم تجرؤ بعد على أفلمتها. كل شيء يبدأ في كندا حيث يشرح الكاتب العدل لتوأمين الشرط الذي وضعته والدتهما لينتقل الارث اليهما ويتمكنا من دفن الوالدة المرحومة ضمن الأصول والأعراف الدينية. ثم ينتقل الفيلم إلى ما يفترض انها احدى القرى اللبنانية المسيحية. الحقبة: بضع سنوات قبل اندلاع الحرب. نرى بأم عينينا شابين يقتلان فلسطينياً. والدة التوأمين، نوال، كانت حاملا منه. بيئتها المسيحية المتشددة ستُعاملها بأقسى أنواع التعامل بسبب هذا الحمل الذي لا يتماشى وتقاليد جماعتها.
هذا الحدث المحوري ستكون له تداعيات فظيعة على المنطقة التي تعيش أصلاً غلياناً طائفياً وكراهية حادة بين من يعتبرون أنفسهم أضداداً، قبل أن تأتي الحرب الأهلية لتجرف الجميع، مقحمة إياهم في دمار شبه كامل للكرامة الانسانية. ستكون نوال أولى ضحايا هذه الحرب الدائرة. يحكي فيلنوف قصته بهدوء رائع. قصة قد توجد مثيلات لها في لبنان وبلدان عربية أخرى، لكن ثقافة العيب تحول دون خروجها الى الضوء. كونه غير لبناني، هذا يسمح له بأن يأخذ مسافة من المادة المطروحة، من دون السقوط في عيب الاستشراق البليد.
بعد "عدو" الذي لم نشاهده وكان له خروج محدود في الصالات، يعود فيلنوف مع "سجناء" (2013) فيضرب حيث لم نكن نتوقع. لم نكن نتوقع قط فيلماً بهذه الرشاقة والفعالية والشهامة. انه من أجمل مفاجآت 3013 بلا أدنى شك. ضربة كفّ بصرية وانفعالية! يسمرنا الفيلم في مكاننا لضخ هذا القدر من التشويق في العروق. "سجناء" دراما عائلية تتداخل فيها تيمات الخلاص البشري بالمعضلة الأخلاقية وهاجس النسل، حيث كل لحظة لها كلمة الفصل في هذا البازل المبعثر الذي تتلف اعادة تركيبه أعصاب المشاهد. في بيئة شتائية يغمرها الضباب والأمطار، يقدم فيلنوف تريللرا متوترا لا ينفك يتحول لوحة أخرى عن أميركا العميقة؛ تلك البقعة الكئيبة الغارقة في البارانويا حيث الخوف من الخسارة والفقدان يحول المرء الى جلاد مع انه "الضحية".
مع "سيكاريو" (2015)، يصعد فيلنوف إلى مرتبة اخرى من مسيرته ويدخل للمرة الأولى مسابقة مهرجان كانّ. بات أكيداً مع هذا الفيلم انه "يجتاج" السينما الأميركية بثقة عالية في الذات، آتياً اليها "من فوق"، فارضاً رؤيته وشخصيته الفيلمية التي لم يتنازل عنها هنا على الرغم من الموازنة الكبيرة والضغوط الانتاجية التي عمل تحتها. نحن هنا أمام فيلم مرجعي يراكم كلّ تفاصيل كارتيلات المخدرات ويذكّر قليلاً بـ"ترافيك" لستيفن سادربرغ. التشويق الذي يعزفه على اكثر من نغم، يشد المشاهد طوال ساعتين بإخراجه الباهر ولحظات خروجه عن السياق الدرامي. لا جديد في موضوع المخدرات والعنف والدم، لكنه قارَبه بطريقته الخاصة، الوجودية الغنائية القاتمة، مع لقطات تحلق عالياً في فضاء الثريللر. اميلي بلانت تقطع الأنفاس في دور الشرطية الشاهدة، ولا يمكن تخيل الفيلم من دونها، على رغم ان المنتجين كانوا يريدون استبدالها برجل. جوهرة من جواهر العام الماضي.
جديد فيلنوف، "وصول"، الذي يُعرض حالياً في الصالات البيروتية، سبق أن عُرض في مسابقة البندقية ولم ينل فيها أي جائزة. الفيلم ليس عن الكائنات الفضائية بقدر ما هو عن البشر واللغة، وعن مخاوفنا من الآخر والمجهول. صحيح أنّ السينما الأميركية ذات الانتشار الواسع التي "يهاجر" إليها المخرج الموهوب ظلت تبلور هذا الوسواس منذ عقود، إلا أنّ "وصول" يأتي برؤية مغايرة ومقاربة فلسفية حميمية لغزو الكائنات الغريبة كوكبنا. وعندما نقول كوكبنا، نعني عملياً الولايات المتحدة، فالكوكب في هذا النوع من الأفلام يقتصر على العالم الجديد، والباقي "تابع" يتجلّى على شكل شريط إخباري في أسفل نشرة الأخبار. فيلنوف، الزاحف ظاهرياً الى سينما "ماينستريم" بعيداً من هموم كيبيكه الحبيبة، أذكى من أن يقع في الفخ الذي نُصب له. فيلمه هذا لا يسلّي المراهقين ولا يقدّم الكائنات الغريبة في اعتبارها أشراراً تريد ابتلاع الأخضر واليابس، بل ينطلق من بعض كليشيهات هذا الجانر ليحلّق بنصّه المقتبس من قصة لتد تشيانغ الى عوالم بسيكولوجية، تذكّرنا في بعض فصوله... بتيرينس ماليك. هيتشكوك كان يقول: "الأفضل أن ننطلق من كليشيه من أن ننتهي به". فيلنوف يأخذ بالنصيحة.
مرة جديدة بعد "سيكاريو"، البطلة هنا هي امرأة (آيمي آدامز)، ومرة جديدة يعرف فيلنوف كيف يضع الحضور النسائي والحساسية النسائية في قلب الحوادث المتلاحقة، ودائماً مع تلك النظرة الحائرة في عينيها لشدة دهشتها جراء الخضوع لحوادث تتجاوزها وتتغلب عليها وتتفلت منها. المرأة عند فيلنوف ليست نبع أحاسيس تقاوم عالماً حافلاً بالخشونة والذكورية (حتى لو كان ذلك التوصيف صحيحاً أيضاً)، إنما أمٌّ تضع مولوداً، وعلاقتها بالحياة بيولوجية وترى الوجود من منطلقات ذلك النسل. والخطاب المطروح في الفيلم حول اللغة هو على علاقة بالنسل. بطلتنا هنا، لويز بانكس، خبيرة اللغات التي تدرّس في جامعة، أمٌّ فقدت ابنتها في سن مبكرة. ذات يوم تستيقظ منطقة مونتانا على تهديد يأتي من الفضاء الخارجي، يتجلى في مخلوقات تشبه العناكب الضخمة، فتستعين السلطات المحلية ببانكس لتتواصل مع الكائنات وتعثر على معنى لكلامها، والاستنتاج تالياً ما إذا كانت تريد للبشر خيراً أو شراً. ثمة الكثير من التفاصيل المتعلقة بنشاط بانكس في المركز الذي تتعامل منه السلطات مع الكائنات، يمكن القفز فوقها، فهي لا تؤخر ولا تقدم في إطار مقالة نقدية. في المقابل، ما لا يمكن تجاهله هو وجود فيلمين في فيلم واحد. فيلمان يتصارعان، وهذا يعبّر ربما عمّا يدور في عقل فيلنوف وقلبه: الأول مشهدي عريض نكتشف من خلاله المركبة ذات الشكل البيضوي الذي يشكّل نقطة اتصال بين عالمنا وعالم الكائنات التي تخاطب البشر برموز هيروغليفية، وعلى الدكتورة تالياً فكّ معانيها. أما الثاني فيتأتى على شكل مَشاهد خاطفة، فلاشات عابرة، وهي انعكاس لعالم الدكتورة الداخلي، حيث يسير تطوّر الحوادث بالتوازي مع التعمّق في دواخلها (أمومتها فمأساتها العائلية)، حدّ أنّ الحكاية برمّتها تصبح في النهاية مرآة لعقلها الباطني. يقدّم فيلنوف فيلماً دافئاً بحسّ إنساني عالٍ جداً، مشبّع بموسيقى يوهان يوهانسون الغامضة المبهمة. إنّها دراما مضللة لا شكّ، لها هنّاتها وهفواتها، لكنها تقدّمية جداً في نظرتها إلى العالم والإنسان ومستقبل البشر والإيمان باللغة والتواصل سبيلاً أوحد لاستمرار الحياة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم