الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

إفساد الماضي بعد إفساد الحاضر؟

محمود حدّاد
A+ A-

كتب حامد الحمود تحت عنوان "الحاج أمين ونتنياهو والهولوكوست" ("قضايا النهار"، 29 تشرين الأول 2015)، مقالاً حول محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي تأجيج الكراهية ضد الفلسطينيين بربط الهولوكوست بقيادتهم الوطنية في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي والممثلة بالحاج أمين الحسيني. وقد جاء المقال متوازناً ومفسراً لأسباب الكذبة الصهيونية الجديدة التي لم يبلعها سائر الصهاينة ذاتهم فهاجموا تحريف نتنياهو للتاريخ لأنه يبرّئ النازية عملياً.


لكن كاتب المقال ينهي كلامه بالقول: لقد كان المفتي شخصية مثيرة للجدل والبعض يحمّله مسؤولية تدهور الدعم للشعب الفلسطيني، بعد هزيمة ألمانيا. وبدا أن النجاحات التي حققها الصهاينة في فلسطين بعد إخماد الثورة العربية في 1938 أفقدته الحكمة. وفي مذكراته التي كتبها خلال إقامته في لبنان أظهر شعورا معاديا للسامية مستشهدا بكتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" المزيف. وقد انحدرت سمعة الحاج أمين عند الكثيرين حتى قبل نكبة 1948 ونقل [جلبير] الأشقر في كتابه عن فوزي القاوقجي أنه عندما علم الوزير المصري محمد علوبة أن المفتي وصل إلى بيروت في عام 1947 خلال الأزمة التي فجرها اقتراع الجمعية العمومية للأمم المتحدة على تقسيم فلسطين، صرح الوزير "ما مدّ هذا الرجل يده إلى مسألة إلا وأفسدها... وربنا يستر".
الواقع أن هذا الكلام غريب ومؤسف لأن الأحوال العربية الراهنة فيها من المآسي والأخطاء والخطايا وشبهات (بل تأكيدات) الفساد والإفساد ما يكفي أمم العالم كلها لا الأمة العربية وحدها. فلا ضرورة للعب بالتاريخ أيضاً، بل المطلوب دراسته دراسة عميقة وجادة بدل إطلاق الكلام على عواهنه. إن العصمة غير معقودة لأي شخص أو مجموعة، إلا أنه كيف كان للحاج أمين أن يغيّر سير الأحداث في فلسطين وقد وقفت كل دول العالم ذات الوزن في الشرق وفي الغرب إلى جانب الحركة الصهيونية منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، بل منذ ما قبل القرن العشرين؟ كانت روسيا وبولندا ومعظم دول شرق أوروبا ترغب في تهجير اليهود بسبب كراهيتها لهم فأرادت التخلص منهم بترحيلهم إلى فلسطين. وقد كتب أحد الرحالة الغربيين واصفاً رحلة له إلى فلسطين عام 1884: "من المدهش أن السياسة الروسية التي تقمع اليهود بشدة في بلادها تقوم بحمايتهم في فلسطين". وقد اشتدت هذه النزعة بعد إصدار وعد بلفور وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى عند دول أوروبا الوسطى بما فيها المجر ورومانيا التي طلبت في الثلاثينات من "عصبة الأمم" ولجنة الانتدابات مساعدتها "في التوصل إلى "حل نهائي" لمشكلة اليهود في أوروبا حتى أن مندوب بولندا في العصبة تيتوس كومارنيسكي اقترح وقتها أن تحل بلاده محل بريطانيا بصفة الدولة المنتدبة على فلسطين للتأكد من تنفيذ المشروع الصهيوني. أما بريطانيا ثم الولايات المتحدة فكانت الأيديولوجية المسيحية البروتستانتية الأصولية قد تمكنت منها فاعتبرت الهجرة اليهودية ودعمها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً فرْضاً دينياً كما أن لندن رأت في المشروع الصهيوني فرصة ممتازة لتطبيق إستراتيجيتها الأثيرة القاضية بفصل مصر عن المشرق العربي واستخدام الكيان الصهيوني كحامية عسكرية دائمة للمصالح الاستعمارية في المنطقة ومنع قيام أية دولة قوية فيها. لقد تعددت أهداف الدول الكبرى، إلا أنها اتفقت جميعها ضد فلسطين خاصة، وفي البداية، وضد أي قضية تؤدي إلى التوحد والتقدم والتحرر العربي عموماً. وعندما قال الرئيس الروسي بوتين عام 2012 إن أمن إسرائيل هو أحد عناصر الأمن القومي الروسي، فانه كان يعبر عن رأي منافسيه في أوروبا الغربية وأميركا كما عن رأي موسكو وحساباتها الطويلة الأمد في الوقت ذاته.
إن هذا يفسر، إلى حد كبير، إجماع الدول الكبرى منذ نهاية القرن التاسع عشر على ضرب أية محاولة نهوض عربي وعلى تأكيد أولوية تزويد الحركة الصهيونية بالدعم والتأييد. ولا شك في أن الرئيس جمال عبد الناصر كان على حق عندما قال عام 1962: "إن قضية فلسطين أصعب قضية في العالم ". لكنه – وكل العرب- دفعوا ولا يزالون يدفعون برأينا، ثمناً غالياً لوقوع الرئيس المصري في 1967 في فخ مزايدات إقليمي وتربص دولي جعله يغفل عما كان قاله في 1962.
لقد تولت زعامات فلسطينية وعربية أخرى القيادة بعد الحرب العالمية الثانية فما وجدناها حققت الآمال التي عُقدت عليها. لم يُظهر أحمد الشقيري أو ياسر عرفات أو جورج حبش وغيرهم كثير من القيادات الفلسطينية شعوراً معادياً للساميّة ولم يستشهد أحد منهم بـ"بروتوكولات حكماء صهيون" (التي كتبتها المخابرات القيصرية الروسية على ما يقال) فهل استطاع أي منهم أن يحقق لفلسطين أفضل أو أكثر مما قبلت به الدول الكبرى وإسرائيل نفسها ثم تراجعت هي نفسها عنه؟ وحتى اتفاق أوسلو الذي رُسم حسب مقاس تل أبيب ومصالحها أصبح مطلباً يُرجى تحقيقه من القيادات الحالية التي عرّتها السياسات الإقليمية والدولية من أي وزن.
أما قول الوزير المصري، محمد علوبة، غداة تصويت الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين في 1947، بإفساد الحاج أمين لكل قضية مدَّ يده إليها فإنه (وإن كان مذكوراً في كتاب جيلبير الأشقر، وهو كتاب غير مقدس عند أحد)، فإنه قول من السخف بمكان. ويستطيع القارئ إذا تبع هذا المنطق المؤسف إلى نهاياته أن يسأل: وهل عمل الحاج أمين بقضية غير قضية فلسطين؟ وهل كان هو سبب تصويت كل الدول الكبرى وأتباعها في الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين؟ ولماذا فشلت جامعة الدول العربية مثلها مثل الوزير المصري المذكور في جهودهم لإسقاط القرار؟ أكان ذلك لفقدان كل هذه القيادات الوطنية (وكلها وطنية بأساليب مختلفة وحسب الإمكانات المتوافرة) للحكمة أم لأن الظروف العربية والدولية كانت غالبة وغلابة؟ وقد يُقال إن كل الحركات الوطنية جابهت عدوها الاستعماري وانتصرت عليه نظراً الى تضحياتها. وهذا صحيح. إلا أن كل حركة من هذه الحركات كانت تجابه قوة استعمارية عاتية واحدة وليس استعماراً استيطانيا شرساً بالإضافة إلى كل الدول الاستعمارية والكبيرة مجتمعة ودفعة واحدة. وكان العديد من القوى الوطنية يقاتل قوة أوروبية كبرى ما وهي متحالفة مع قوة كبرى أخرى، إلا أن هذا الخيار كان مقفلاً أمام الحركة الوطنية الفلسطينية وكذا أمام حلفائها العرب المفترضين. وقد سخر بعض المعلقين الذين يصح وصفهم بأنهم يشكون من "الطفولة السياسية" من محاولة الحركات الوطنية العربية التقرب من ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية لأن الأخيرة كانت معادية للسامية وتاليا للعرب كما لليهود الذين يشتركون في النسب السامي ونسي هؤلاء أن العرب كانوا يبحثون عن أي حليف إذا أمكن بغض النظر عن الأيديولوجيات. وهذا يشير إلى الوضع الصعب، بل اليائس الذي وجدت هذه الحركة نفسها فيه بسبب الظروف. والاختبار الحاسم في هذا المجال يكمن في سؤال هؤلاء: "ماذا كنتم لتفعلوا في ظروف مشابهة؟".
في كل الأحوال، إن التاريخ العربي الحديث والمعاصر مليء بالزيف والتزييف لأنه تاريخ قام بتسييسه أكثر من طرف محلي وإقليمي ودولي وما زالت أكثر وقائعه غير مدروسة دراسة اكاديمية صحيحة وليس عند المؤسسات العربية التي تعمل في هذا المجال إمكانات مادية للقيام إلا بجزء بسيط من هذه المهمة. ويندر أن تجد ثرياً عربياً يمنح مثل هذا الجهد ما يمنحه لمصروفاته الترفيهية على امتداد قارات العالم. فلنترك الخفة ولنحاول النظر بموضوعية إلى الماضي كما إلى الأوضاع الكارثية التي نمر بها بعد ثلاثة أرباع قرن من تقسيم فلسطين.


مؤرخ وأستاذ في جامعة البلمند

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم