الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

رأي \r\nكيف تسلل اللبنانيون إعلامياً إلى سوريا؟

مصطفى علوش
A+ A-

يمكنكم ترك هذا المقال جانباً وعدم قراءته من السطر الأول. الحق معكم. إنه عنوان مستهلك. يكفي أن ذلك البرنامج التلفزيوني البعثي بقي سنوات يبث من دمشق، بينما كانت حواجز قوات الردع السورية في لبنان تذل اللبنانيين وتسرقهم، وهناك ضباط سوريون نهبوا الملايين من بيوت اللبنانيين. نعم معكم حق. ولكن أرجو منكم التريث للحظة، فـ"سَوَا ربينا" الذي أقصده، هو الإعلام اللبناني الحر، وتحديداً قنواته التلفزيونية التي بدأت تصل إلينا في المنطقة الوسطى بسوريا في بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث كنا نعيش تحت احتلال تلفزيون "غصب عنك" الوطني وقناة أخرى تسمى "ثانية"، ترسل أيضاً من المطبخ القسري نفسه.
اصبروا عليّ قليلاً. سأحكي القصة، ولكن بعد أن أشرب قهوتي سادة ككل مثقف.
في تلك الأيام بدأت الناس في سوريا تسمع من بعضها أن هناك من ركّب شبكات التقاط بث تلفزيوني، جديدة، وهناك من تمكن من رؤية قناة لبنانية.
تحمست للفكرة كثيراً، ولا سيما أني كنت أمقت كثيراً ذلك البرنامج السطحي "سَوَا ربينا" الذي يركز على الأطعمة والفواكه والفلافل المشتركة بين الشعبين. ركضتُ يميناً وشمالاً، حسبتُ التكاليف المالية والنفسية المطلوبة لتركيب شبكة ورفعها ما أمكن على السطح، وبعد جلسات تشاورية عائلية، قررتُ تشاركياً تخصيص مبلغ مالي من مصروف البيت من أجل هذا المشروع التنويري التحديثي.
بدأ الركض للبحث عن خبير شبكات، من حيّ إلى حيّ صار البحث. قالوا لنا إن أبا النور هو أحد أعمدة الحداثة التلفزيونية في تركيب الشبكات. جاء الخبير وعاين المكان وقال "يلزمنا بوري حديد طوله 9 أمتار لتركيب الشبكة عليه ورفعه على السطح من أجل الحصول على بث تلفزيوني لبناني جديد".
اشترينا البوري واجتمعنا نحو 6 رجال وكنا فعلاً أشدّاء، وبدأنا برفع البوري نحو سماء الحرية، بعدما ركّب أبو النور شبكته التحديثية الراقية الرائعة. بعد دقائق من البحث والتوليف والتدوير في التلفزيون، عثرنا على أربع قنوات تركية وأخرى لبنانية، وعندما وضحت صورة البث ولا سيما على القناة اللبنانية، زغردت النساء اللواتي كن يتابعن الحدث خطوة بخطوة.
من ذلك اليوم، لم نعد نتابع خطب حافظ الأسد المقاومة، ولا برنامج الشبيبة، ولا برنامج مع العمال، ولا برنامج الفلاحين، ولا الأيدي الماهرة، وتركنا ماريا ديب تقدم ما يطلبه الجمهور دوننا، ومن يومها شعرت أن خلايا الممانعة في دمي نقصت، حيث تنشّط عقلي قليلاً.
صرت أتابع كل البرامج الصادرة عن تلك القناة. نشرات الأخبار أصغي إليها بكل أحاسيسي، رغم كل دروس البعث المدرسية التي علّمتنا كيف "يدسّون السم في العسل".
في يوم من الأيام السعيدة قالوا إن إعلامية لبنانية مشهورة ستجري على تلك القناة حواراً مع الفنان زياد رحباني، وخلال ساعات كان الخبر عند جميع الأصدقاء. انتظرنا ذاك الحوار بفارغ الشوق والأخوة القومية التي تجمعنا، حيث ارتدى زياد "كرافيه حمرا" جكارةً بالإعلامية المعروفة وتوجهاتها السياسية، وتأكيداً لشيوعيته. طبعا سجلتُ الحوار على كاسيت، وأمضيت أياماً في ترجمة اللقاء إلى اللغة العربية، لأن منتقديه كانوا كثراً وكنت يومها متعاطفاً معه، فأردّ على المنتقدين بروح شيوعية أيضاً قوامها "يجب أن تفهموا أن زياد وطني وشيوعي ومن هذا الحكي"، وفي كثير من اللحظات كنت أعود إلى بعض قوانين المادية الديالكتيكية لأوضح ماذا قصد زياد هنا أو في تلك اللفتة.
أصدقكم القول، أنا أيضاً لم أفهم على زياد شيئاً. كان يحكي جملاً ناقصة، وينتقل من فكرة إلى أخرى بدون أي رابط، ولكن كنا نحبّه في مسرحياته وغنائه، وكنا نتناقل أشرطته الموسيقية كوجه فني ثوري.
برامج تلك القناة حرّكت الركود العام في حياتنا، وصرنا نتحاور في الأفكار التي يطرحها السياسيون اللبنانيون والممثلون الكوميديون الذين ينقدون ويسخرون من الوصاية السورية، ونفرح من قلوبنا لكل نقد من هذا القبيل.
تطورت حياتنا الفكرية بفضل البرامج الفكرية والسياسية والتحليلات اللبنانية، عوّضنا عن كل فترات الحرمان وغسل الدماغ التي تعرضنا لها من "تلفزيون الممانعة الوطني".
وكنت في النهار ألقي نظرات الإعجاب الفردية على شبكة التقوية التلفزيونية الجالسة كالنسر في السماء تأتينا بأفضل البرامج التلفزيونية. حتى فقرات الرقص والغناء كنا نتفرج عليها بطريقة جديدة، ونشعر أنها فقرات فنية مشغولة بروح أخرى.
طبعا كان ينتابنا حنين "وطني" إلى تلفزيوننا، لكننا بعد أول مشاهدة ومقارنة كنا نعود راكضين إلى تلك القناة وبرامجها.
من يومها، فتحت نافذة الاعلام الآخر في حياتنا، فخرجنا من القوقعة، ومن الزجاجة الحصرية التي أدخلونا فيها، وصرنا نقارن ونحلل ونتكلم. بصراحة هذا التسلل الإعلامي الجميل، الذي وصل إلى بيوتنا، جعل دماغنا يتغير، فباتت المقارنات والتحليلات والإضافات شغالة في نقاشاتنا ليلاً نهاراً.
مقارنات بين تصوير خشبي في تلفزيون "غصب عنا" الوطني، وتصوير مرن متغير، مصور الكاميرا اللبناني لم يتخرج من بوفيه الهيئة العامة، ولم يتصل من أجله مساعد أول في فرع أمن مثلاً.
المقارنات الأهم في ما يقوله اللبناني وحريته التامة، يحكي براحته، رغم الاحتلال العسكري السوري لبلده، كان يحكي كأن اللغة بكل اتساعها لا يمكنها أن تعبّر عن أفكاره.
طبعاً من خلال تلك الأفكار الحرّة، تعرفنا إلى الأمراض اللبنانية السياسية أيضاً. تعرفنا إلى الشخلعة في الرقص. ولكن أيضاً أخذنا فكرة عن الطائفية وعن التقاسم الطائفي في الحكم. تمكن يومها الإعلامي التلفزيوني اللبناني من جعلنا نحبّ الفن اللبناني والفكر السياسي الحرّ، ونحن أبناء "اتحاد شبيبة الثورة" و"الاتحاد الوطني لطلبة سورية"، نحن أبناء برنامج "صوت فلسطين من دمشق"، صرنا أشخاصاً آخرين.
أعرفتم كيف أن "سَوَا ربينا" الذي أحبّه غير "سَوَا ربينا" الاحتلال السوري للبنان؛ غير برنامج المغص الخشبي، الذي يركز على أفخر الأكلات اللبنانية والسورية ويفتش عن البهارات الأخوية بينهما، ويخلص المذيع إلى نتيجة "سَوَا ربينا"؟
"سَوَا ربينا" أيها اللبنانيون. نعم ولكن من غير وصاية واحتلال. "سَوَا ربينا"، من دون دبكة مفروضة عليكم، ومن دون رقص سياسي على أنغام المخابرات. "سَوَا ربينا"، من دون تلقين وأوامر صباحية ومسائية للشعب اللبناني. هذه فعلاً "سَوَا ربينا"!
ما رأيكم، دام فضلكم، بعد أن تأكدت أن حكومتكم الفاضلة قد طلبت من مفوضية اللاجئين هذه الأيام توقيف تسجيل اللاجئين السوريين على أراضيها، وتكتفي فقط ببث أغاني الشوق لبلدهم في مبناها الضخم في الكولا؟
و"سَوَا ربينا". "سَوَا" تشردنا ونزحنا عن أراضينا. ويلعن بيّ الفقر والقمع.

كاتب سوري

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم