الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

ملك التويست يعود إلى لبنان

محمود الزيباوي
ملك التويست يعود إلى لبنان
ملك التويست يعود إلى لبنان
A+ A-

في التاسع من تموز، يحيي النجم الفرنسي جوني هاليداي حفلة في جونيه، ضمن جولة عالمية له عنوانها "البقاء حياً". قبل اثنين وخمسين عاما، وصل "ملك التويست الفرنسي" إلى بيروت لإحياء ثلاث حفلات في كازينو لبنان، غير أنه مُنع من الغناء بموجب قرار رسمي من وزير الداخلية الأستاذ كمال جنبلاط.


في حزيران 2013، احتفل جوني هاليداي بعيد ميلاده السبعين بإحياء حفلتين موسيقيتين حضرهما الألوف من معجبيه. جرى الحفل الأول في مسرح بيرسي في باريس، وتميّز بحضور عائلات بأكملها من جدود وأهل وأطفال، مما يشهد لنجاح هذا النجم المتواصل منذ أكثر من خمسة عقود. استهل هاليداي الحفل بأغنيته الشهيرة "كم أحبّك" التي تعود إلى العام 1969، ثم استعاد كوكبة من أشهر أغنياته، وقدّم أغنيات ثنائية مع شارل أزنافور، ومع رفيق دربه ادي ميتشل، ومع ابنه دافيد هاليداي. خاطب الجمهور، وقال "السعادة تعمّ المكان"، فردّ عليه الحضور مغنياً "سنة حلوة يا جميل"، فذرف جوني الدمع، وقال "لولا وجودكم لما كان لي وجود"، ثم ختم الحفلة بتحفة جاك بريل الخالدة "عندما لا نملك سوى الحب". عرف جوني هاليداي المجد في مطلع حياته، وتابع مسيرته بثبات، وبقي حاضراً في المشهد الإعلامي الفرنسي، محافظاَ على "شبابه" الدائم في زمن دخل كل معاصريه من نجوم "الأغنية الشبابية" مرحلة الشيخوخة المبكرة. أقام أكثر من مئة وثمانين جولة غنائية حضرها أكثر من ثمانية وعشرين مليون شخص، وتجاوزت مبيعاته من الأسطوانات رقم المئة مليون. وهو اليوم لا يزال "اسطورة حية" في فرنسا، كما كان على مدى خمسة عقود من الزمن.
وصلت شهرة جوني هاليداي مبكرا إلى لبنان، وأعلن كازينو لبنان ثلاث حفلات له تقام أيام الجمعة والسبت والأحد، في 11 و12 و13 كانون الثاني 1963. رافقت الصحافة اللبنانية الحدث، وكتبت "الشبكة" يومذاك: "وصل ملك التويست جوني هاليداي مساء الخميس الماضي إلى بيروت. استُقبل على المطار استقبال الفاتحين. كان ينتظره ألف شاب وفتاة من عشاق التويست في لبنان، كانوا يحملون الغيتارات باليمين وصور جوني باليسار. وانتصبت فوق رؤوسهم لافتة عليها عبارة الترحيب بالمعبود الصغير. ذُهل جوني بهذا الاستقبال الحار من جماعات تعيش في الشرق، وذُهل أكثر عندما عرف أن رقصة التويست ممنوعة في لبنان بموجب قرار رسمي، ثم قال: على كل حال، التويست ممنوعة على اللبنانيين، وأنا لست لبنانياً، أنا فرنسي". أمضى الشاب الفرنسي في بيروت ليلتين وثلاثة أيام. تناول طعام العشاء في كازينو لبنان إلى طاولة ضمّت رئيس الحكومة رشيد كرامي، السفير الأميركي أرمين مايير، السفير الفرنسي دو بوا، مدير الكازينو فيكتور موسى وعقيلته مي، ومدير صحيفة "الحياة" كامل مروة. جال في العاصمة اللبنانية، ودخل المحلات، واشترى المنتوجات المحلية، ولم يثر حضوره أيّ اضطربات. بعدها، أصدر كمال جنبلاط قراراً مفاجئاً يقضي بمنع "ملك التويست" من إحياء حفلاته المقررة في كازينو لبنان، وترحيله من لبنان خلال أربع وعشرين ساعة. نُفّذ القرار سريعاً، ورحل الملك عن لبنان وهو يقول: إنه قرار غبيّ ومثير للسخرية".


باسم الحشمة والأدب
رسمياً، جاء هذا القرار الفريد من نوعه تنفيذاً لقرار سابق يقضي بمنع رقصة التويست في الأراضي اللبنانية، وأحدث صدوره ضجة عالمية، وقرر كازينو لبنان مقاضاة الحكومة التي وافقت على مجيء ملك التويست، ثم عادت ومنعته من الغناء، وأمرت بترحيله. في 23 كانون الثاني، تسلمت الدولة مذكرة ربط نزاع قدّمها الأستاذ فارس زغبي بوصفه أحد محامي شركة كازينو لبنان. حددت هذه المذكرة ثلاث نقاط اساسية تجاهلها وزير الداخلية حين أصدر قراره بمنع المغني الفرنسي من الغناء وترحيله من البلاد. تشدّد النقطة الأولى على القانون الذي يقول بأن الادارة لا تملك حق الرجوع عن موافقة أعطتها حسب الأصول، وقد تقدمت شركة الكازينو بالمعاملات الرسمية إلى الأمن العام، طالبةً الإذن بدخول جوني هاليداي ملك التويست إلى الأراضي اللبنانية ومنحه الترخيص بالعمل، ووافقت ادارة الاتفاق ورخصت بإحضار الفنان للعمل، وأبرقت وزارة الخارجية الى السفارة اللبنانية في باريس تعلمها بالواقع وتمنحها حق التأشير على جوازات السفر الخاصة بجوني هاليداي وفرقته، وبعد وصول النجم إلى بيروت، سحبت وزارة الداخلية هذه الموافقة في مخالفة قانونية ظاهرة، فكل عمل إداري صادر عن الإدارة وفقا للأصول يُعتبر نافذاً، ولا يحق للدولة أن تتراجع عنه، واذا تراجعت فهي ملزمة كل عطل وضرر ينجم عن هذا التراجع للأشخاص المتضررين. في المقابل، تؤكد النقطة الثانية من المذكرة أنه لا يجوز لمدير الأمن العام أن يُخرج الأجنبي من الأراضي اللبنانية لأسباب تتعلق بالأمن، وتفنّد النقطة الثالثة عمل السلطة، وعمدها الى ترحيل هاليداي، مع أنه لم يعكر صفو الأمن ولم يُثر أيّ شغب خلال الأيام الثلاثة التي أمضاها في لبنان. بناء على هذا، تقدمت شركة كازينو لبنان من وزير الداخلية بربط النزاع هذا، وطالبت بتعويضات مادية ومعنوية وأدبية تبلغ نحو مئة وخمسين ألف ليرة لبنانية.
إثر هذه الواقعة، اجرى فريد جبر مع كمال جنبلاط حديثاً طويلاً نشرته مجلة "الشبكة" تحت عنوان: "ساعتنان مع عدو التويست رقم 1. كمال جنبلاط يدق ناقوس الخطر. الحضارة في خطر، أخلاقنا في خطر، وجودنا في خطر". قال وزير الداخلية إن الحضارة اللبنانية مهددة، وإنه سيحارب التويست حتى الرمق الأخير، وسيمنع رقصة التاموريه ورقصة الماديسون اذا كانتا خليعتين، وسيقضي على كل رقصة لا تنسجم مع الحشمة والأدب. وشنّ هجوما على ملاهي الستيريو المظلمة، وذهب أبعد من ذلك، فقال إنه سيمنع قريباً أفلام الغانغستر والجرائم والاحتيال التي تضرّ بالشباب اللبناني. استهلّ جنبلاط حديثه بالكلام عن دوره كوزير للداخلية، وقال: "لم آت وزيراً لأقبض الثلاثة آلاف ليرة في نهاية كل شهر ولأكون نافذاً. إن في عنقنا أمانة يجب أن نؤديها بإخلاص، فالحضارة كلها الآن في خطر. إنها في طريق الانقراض. وجودنا كله بات خطراً في خطر اذا استمرت هذه الموجة العامرة من الانحطاط، ولم نقضِ عليها. إن كل ما نفعله اليوم هو من أجل حماية الجيل الطالع، ومن أجل أن تستعيد القيم والمثل مكانتها واعتبارها في لبنان". وأضاف: "إن كمال جنبلاط لم يتعوّد أنصاف الحلول، ولا من طبعه أن يقف عن تنفيذ خطة عزم على تحقيقها. إن الجهاز الذي أسند اليه مهمة ملاحقة راقصي التويست كان يتألف من ستة عشر نفراً فقط، أما الآن فقد تضاعف عدد أفراده، واشتدّت وطأة المراقبة، فانخفض عدد المخالفين". هنا سأل فريد جبر الوزير: "يقولون إن رجال الأمن لا يميزون التويست من الروك اندرول أو الفوكس تروت، فكيف يستطيعون تنظيم المخالفات؟". ابتسم الأستاذ جنبلاط، وأجاب: "سيتعلمونها، ويبدو أنها ليست صعبة".
تشبّث كمال جنبلاط بموقفه، وأكّد استعداده لإجراء استفتاء شعبي يظهر من خلاله أنه لا يفعل إلاّ ما يمليه عليه واجبه، وقال إنه على ثقة بأن قراره ينال التأييد شبه الاجماعي، "فالمتن، والشوف، وكسروان، وصيدا، وطرابلس، والجنوب، كلها تؤيد القرار تأييداً تاماً"، "ثلاثة أرباع الشعب معه، فمَن عليه؟ الربع؟". في هذا السياق، أعلن الوزير مشروع قرار أخذ طريقه إلى مجلس النواب، يتعلق بالمراقبة على الأفلام. وقال: "أنا لا أعنى بالملهى إطلاقاً. أنا أنام في الساعة التاسعة وأستيقظ في الرابعة والنصف صباحاً. لقد كنت أتردّد على السينما عندما كنت صغيراً في المدرسة، ولكني انقطعت عنها عندما تخرجت ودخلت معترك الحياة، ولم أشاهد بعد ذلك إلا أفلام شكسبير، لأنها الأفلام الوحيدة التي تغذّي الأفكار". ثم تحدّث عن المخطّط الجديد الذي وضعه للرقابة على الأفلام، وقال موضحاً: "ستستند مهمة مراقبة الأفلام إلى لجنة من ستة أشخاص تشرف عليهم دائرة الأمن العام. وأعضاء هذه اللجنة هم مندوبون عن وزارة الداخلية والاقتصاد والأنباء، وكاهن وشيخ. ستقتصر مهمة الكاهن والشيخ في الاستشارة فقط، أي أنهما يحضران الأفلام واجتماعات اللجنة بصفة مستشارين، كما سنطلب من تجار الأفلام وأصحاب دور السينما أن يعيّنوا من قبلهم عضواً يمثلهم في اللجنة، وفي حال تمنعهم عن تعيين مندوب عنهم فسنعيّن نحن ذلك المندوب".
واصل كمال جنبلاط الكلام، وتحدث عن الضرر التي تلحقه أفلام الغانغستر والجرائم، ورأى أن مشاهد الإجرام هي أشد خطراً من مشاهد إثارة الغرائز، "فأفلام الجريمة ولو لم يتأثر بها الولد في الحال، الا أنها تترك أثراً في مخيلته، وهذا الأثر يبقى راسخاً في نفس الولد حتى اذا ما شبّ وترعرع، كبرت معه تلك الجرثومة حتى تطغى على روحه وتدفعه الى ارتكاب الجرائم ومحالفة الشر، أما بالنسبة لمشاهد إثارة الغرائز، فأنها لا تترك الأثر السيئ الذي تتركه مشاهد الإجرام. ثم ماذا تكون نتائجها في المستقبل؟". بعد هذا الكلام، تناول جنبلاط في حديثه "فلسفة السينما"، وقال إن السينما هي في الحقيقة مكان تعيش فيه النفس شتى أنواع الانفعالات، فتثور الغرائز وتسيل الدموع "عالفاضي"، وتساءل: "فلماذا لا يحتفظ الانسان بهذه الطاقات كامنة في صدره فلا تتصرف الا عند الحاجة وبصورة طبيعية، فلا يتأثر إلاّ من أجل شيء له صلة مباشرة بحياته وواقعه ووجوده، لا من أجل وهم وخيال؟". في ختام هذه المداخلة الفريدة الخاصة بفلسفة السينما، قارن جنبلاط بين الماضي والحاضر، وقال: "كان أجدادنا يعيشون سعداء يعمّرون طويلا لأن مشاعرهم لم ترتفع يوماً وتنخفض بعنف، ولا اضطربت أعصابهم أو سالت دموعهم بدون سبب. خطّ انفعالهم كان مستقيماً واضحاً لا تعتريه أية صدمة". بعد الرقص والسينما، وصل الحديث أخيراً إلى التلفزيون، فقال كمال جنبلاط: "أنا لا أشاهد التلفزيون. يقولون إن برامجه ضعيفة وأفلامه الأجنبية خطيرة تضر بالنشء. إن التلفزيون مسألة خطيرة في لبنان. انه يدخل البيوت بلا استئذان، ويراه الكبار والصبيان على السواء. انها مشكلة يجب أن نبحث لها عن حل".


من التويست إلى التاموريه
أثارت حرب كمال جنبلاط على التويست سجالاً واسعاً، وكتب الموسيقي جوزف فاخوري مقالة تناول فيها هذه الرقصة "لا من زاوية مع، ولا من زاوية ضد، بل من زاوية تاريخية". عاد الكاتب إلى بدايات الجاز وتلاقي موسيقى حضارتين، وأبرز الغنى في التناغم والايقاع، وصعود دور الآلة النحاسية في العزف. ثم انتقل الى زمن النزوح الى نيو أورليانز، ونشوء أروكسترا الراكتايم، واشار الى ابتكار مئة رقصة في ثلاث سنوات، ثم تحدث عن الشارلستون والتانغو والفوكس والفالس، وتوقف عند عصر السوينغ الذي سبق التويست، وقال إن رقصة التويست ستندثر مع بروز رقصات أخرى. بقيت التويست حية في بيروت وفشلت حملة جنبلاط في القضاء عليها، كذلك لم تتحقق مشاريع وزير الداخلية الخاصة بالسينما والتلفزيون. بعد التويست، راجت رقصة التاموريه في بيروت، وغنّت صباح في فيلم "فندق الأحلام" من كلمات الياس رحباني وألحانه: "قلبي عم بيدق تاموريه، دخلك يا حبيبي تاموريه، خدني بعّدني طيّرني رقّصني تاموريه".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم