الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

متى يدخل الأزهر في المواجهة الصريحة مع الإسلام السلفي؟

محمود الزيباوي
متى يدخل الأزهر في المواجهة الصريحة مع الإسلام السلفي؟
متى يدخل الأزهر في المواجهة الصريحة مع الإسلام السلفي؟
A+ A-

ندّد الأزهر بتدمير آثار الموصل على يد مقاتلي "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وحذّر من أن تلقى آثار مدينة تدمر مصيرا مشابها، ورأى "أن الدفاع عن المناطق الأثرية من النهب والسلب والدمار هي معركة الإنسانية بأكملها" ودعا إلى "أن تتكاتف الجهود من أجل حماية المدينة التي تعدّ أحد أهم المواقع الأثرية وأقدمها في الشرق الأوسط من المصير المظلم الذي ينتظرها على يد داعش". على رغم هذه الإدانة، تحاشى الأزهر الدخول في مواجهة فقهية صريحة مع "داعش"، واعتبر أن تدمير قطع أثرية تعود الى حقبات تاريخية سبقت الاسلام، يفتقر الى "أسانيد شرعية" وأن المحافظة على التراث "أمر لا يحرّمه الدين".


في العام 2009، قدّم المخرج أليخاندرو آمينابار فيلم "آغورا"، استعاد فيه سيرة العالمة هيباتيا السكندرية التي اعتبرها رواد عصر النهضة في أوروبا "أمّاً روحية" للعلوم الطبيعية الحديثة، ورمزاً للحكمة الفلسفية في زمن إشعاع "الأفلاطونية المحدثة". يعود الفيلم إلى نهاية القرن الرابع، عند احتدام المواجهة بين المسيحية الصاعدة و"العالم القديم" في الإسكندرية، وقد أدت هذه المواجهة إلى اقتحام المسيحيين للمعابد الإغريقية والرومانية، وتدمير مكتبة الاسكندرية، وهدم التماثيل وتحطيم الرموز الفنية وحرق الأبحاث العلمية والوثائق والخرائط بحجة انتمائها إلى الوثنية.
في ذلك الزمن، جمعت هيباتيا جمهور المثقفين من حولها، وأثار نجاحها حفيظة راعي الكنيسة كيرلس الذي ظهر في الفيلم وهو يدعو إلى بقاء المرأة في المنزل، وعدم الاستماع إليها، وحظّر عملها في التدريس أو الفكر. هكذا حرّض الأسقف رعيّته على قتل هيباتيا كونها وثنية و"ساحرة" ابتكرت نظريات علمية، وهي في الواقع "حكيمة" اختارت البتولية ودافعت عن حرية العقيدة. اشتدّ الصراع، وفي النهاية، تمّ القبض على هيباتيا وجُرِّدت من ملابسها استعدادا لحرقها في الساحة العامة، وظهر على الشاشة نصّ يقول إنها كانت عالمة استثنائية، وإن العالِم الألماني يوهانس كيبلر اكتشف في القرن السابع عشر القوانين التي توصلت إليها قبل أكثر من ألف ومئتي عام.
صدم الفيلم المشاهد الذي اعتاد رؤية المسيحي في دور الضحية المضطهدَة في زمن الأمبراطورية الرومانية، وفاجأه في تصويره مشهد اقتحام معبد الإسكندرية المعروف باسم "السيرابيوم"، وتدمير الأنصاب والتماثيل على وقع كلمات المزمور 115: "لماذا يقول الأمم: أين هو إلههم؟/ إن إلهنا في السماء، كلما شاء صنع/ أصنامهم فضة وذهب، عمل أيدي الناس/ لها أفواه ولا تتكلم، لها أعين ولا تبصر/ لها آذان ولا تسمع، لها أنوف ولا تشم/ لها أيد ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشي، ولا تنطق بحناجرها/ مثلها يكون صانعوها، بل كل من يتكل عليها". نقل الفيلم هنا حدثاً وصفه المؤرخون الذين عاصروا تلك الوقائع، وثمة منمنمة تصوّر هذه الواقعة على قطعة من ورق البردى تعود إلى القرن الخامس، وفيها بطريرك الإسكندرية تيوفيلس منتصباً فوق أنقاض "السيرابيوم"، حاملاً بيمناه الكتاب المقدس، ورافعاً يسراه نحو الأعلى في اشارة الانتصار. تيوفيلس هو بابا الاسكندرية الثالث والعشرون، وهو خال كيرلس الأول، خصم هيباتيا الذي خلف خاله على كرسي الاسكندرية، وبات "عمود الدين ومصباح الكنيسة الأرثوذكسية" كما تلقبه الكنيسة القبطية. عاش تيوفيلس وكيرلس في زمن صعود المسيحية وصيرورتها تدريجاً دين دولة، وقد تحقق هذا التحول بشكل تام في العام 391 حين تبنّى الأمبراطور تيودوثيوس المسيحية ديناً واحداً وحيداً للأمبراطورية، ومنعه الأديان الأخرى، وأمر بإغلاق كل معابدها.


أنصاب وأوثان
تذكّر كلمات المزمور 115 بموقف اليهودية الرافض للصور، ويمكن القول بأن هذا الرفض شكّل أساساً لمسألة تحريم الصور في الأديان التوحيدية الثلاثة. في "وصايا الخروج"، يقول الله: "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما ممّا في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض (خروج 20: 4). وفي سفر "التثنية"، يقول موسى في ارشاداته: "احتفظوا جدا لأنفسكم. فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلّمكم الرب في حوريب من وسط النار. لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسك تمثالاً منحوتاً صورة مثال ما شبه ذكر أو أنثى، شبه بهيمة ما مما على الأرض. شبه سمك ما مما في الماء من تحت الأرض. ولئلا ترفع عينيك الى السماء وتنظر الى الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء، فتغترّ وتسجد لها وتعبدها" (تثنية 4: 15-20).
يربط هذا القول بين الأنصاب والوثنية بشكل وثيق، ويتكرر هذا الربط في الكثير من الآيات التي وردت في أسفار العهد القديم، أشهرها ما جاء في الإصحاح الثاني من نبوءة إشعيا: "وامتلأت أرضهم أوثاناً. يسجدون لعمل أيديهم لما صنعته أصابعهم. وينخفض الإنسان، وينطرح الرجل، فلا تغفر لهم" (8-9). في يوم الدينونة الرهيب، "يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية، التي عملوها له للسجود، للجرذان والخفافيش. ليدخل في نقر الصخور وفي شقوق المعاقل، من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض" (20-21). يتردد صدى هذه العبارات في العهد الجديد، كما في قول المسيح: "الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يوحنا 4: 24)، وقول بولس الرسول: "فإذ نحن ذرية الله، لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان" (اعمال الرسل 17: 29). تتحقق نبوءة إشعيا في ما يُعرف بـ"إنجيل الطفولة العربي" الذي يعود إلى القرن السادس، وفيه يمضي يوسف مع مريم والطفل يسوع إلى مصر هرباً من بطش هيرودس، ويبلغ "مدينة كبيرة حيث شيطان مارد كان يسكن وثناً". يتهاوى ذلك الوثن تلقائياً ويسقط عند مرور يسوع، وتسقط معه "كذلك الأوثان الأخرى التي كانت في البلاد".
بقي هذا الارتباط بين الفن والوثنية حياً في نفوس المسيحيين الأول، كما يؤكد أهل الاختصاص، حتى مطلع القرن الثالث. في البدء، جاءت الصورة المسيحيّة الأولى بصيغة الرمز، وانتشرت معها رسوم السمكة والكرمة لتصبح علامة الجماعة المسيحيّة الأولى، ثمّ دخلت الوجوه لتمثّل الرسل والقديسين بملامح أبطال حضارات الاغريق والرومان، فجاءت صورة المسيح الأولى على مثال الاله أبولون، وأطلّت العذراء الأولى لتجسّد الجماليّة الأنثويّة للفن الهلّيني في ملامحها وزيّها. في نهاية القرن الرابع، تغيّر المثال وتبدّلت الملامح، فظهر المسيح بلحيته السوداء وشعره الطويل، والتفّت السيّدة العذراء بالوشاح الطويل الذي تميّزت به نساء فلسطين وسوريا. انتشرت الصور، وحذّر البعض من هذا الانتشار. في القرن الثامن، تصدّرت قضيّة الصورة الدينيّة واجهة الحياة الكنسية والمدنية في الأمبراطورية البيزنطية، وباتت مساحة لطرح الخلافات القائمة حول شخص المسيح وخصائص طبيعته الانسانيّة وصورته الماديّة، وكانت نتيجة هذه الخلافات حرباً عسكريّة ومباحثة جدلية في اللاهوت والناسوت دامتا سحابة مئة وعشرين عاماً.
تُعرف تلك الفترة التاريخيّة بحرب الأيقونات، وقد امتدّت في أنحاء الأمبراطورية البيزنطيّة حيث انقسم المجتمع حزبين: فريق يرفض الصور رفضاً قاطعاً وآخر يناصرها ويعلن ولاءه لها. فريق يتهم خصمه بالكفر والتجديف، وخصمه يردّ التهمة عليه ويتهمه بالوثنية والعودة الى عبادة الأصنام. انتصر أنصار الصور، غير أن هذا الانتصار أدى إلى سيطرة الكنيسة على الفن بشكل شبه كلي. هكذا تراجع النحت حتى اندثر، وظهرت جمالية دينية جديدة تترجم العقيدة المسيحية بأمانة تامة، بعيدا من ناموس الكلاسيكية اليونانية الرومانية.
في العالم الإسلامي، خرجت الصور من دور العبادة بشكل كلي منذ البدء، غير أنها بقيت موجودة خارج هذا الدور، في سائر نواحي الحياة "المدنية". في بلاد الشام، شهدت القصور الأموية على استمرارية الفنون التصويرية رسماً ونحتاً، وأظهرت دراسة هذه الفنون الأثر الكبير الذي تركته عليها الحضارات التي سبقتها. تواصل انتاج الصور في الحقبة العباسية، وتميّز هذا الانتاج ببلورة أسلوب جديد ظهر في النقش والرسم بمختلف أشكاله. في القرن الرابع عشر، بدأ المصوّرون بتجسيد المواضيع الدينية، من خلال المنمنمات التي رافقت المخطوطات، غير أن هذا التصوير لم يشمل البتة نسخ القرآن الكريم.
سنّة وشيعة، صوّر المسلمون سائر الأنبياء في منمنمات بديعة نجدها في كتب متفرقة، منها المؤلفات التاريخية، والمؤلفات الأدبية، وكتب "سير الأنبياء" التي راجت بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، في رعاية مباشرة من الملوك والسلاطين المسلمين. رفض "الإسلام السلفي" هذا الواقع الذي تؤكده المخطوطات المزوّقة المحفوظة في أكبر المكتبات، وتجاهل وجوده بشكل مطلق حتى اليوم. أكد أنصار هذا الإسلام أن "التماثيل أو الصور المجسمة لذوات الأرواح هي أشد أنواع التصاوير تحريماً في الشرع، سواء كانت أصناماً تعبد من دون الله،  أو كانت تماثيل حيوانات جمالية فقط، ولا يجوز شراؤها كتحفة فنية، ولا لغيرها من الأسباب".
استند هذا التحريم على الآية التسعين من سورة المائدة: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"، كما استند إلى أحاديث النهي عن التصوير والوعيد، وأشهرها: "إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصوّرون". "من صوّر صورة في الدنيا كُلّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ". "كلّ مصوّر في النار، يُجعل له بكل صورة صوّرها نفس فيعذبه في جهنم". "من صوّر صورة، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا". "خرج عُنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكّلت بثلاث: بكلّ جبَّارٍ عنيد، وبكلّ من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين". "إنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة". "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، ولا صورة، ولا تماثيل، ولا جنب". من جهة أخرى، تحدث القرآن عن الجن الذين سخّرهم الله للنبي سليمان، فصنعوا له من بين ما صنعوا من بدائع التماثيل، كما يستدلّ من الآية الثالثة عشرة من سورة سبأ: "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات". لا يعني ذلك، قبول الإسلام بنوع ما من التماثيل. علّق الألوسي قائلاً: "الحقُّ أنَّ حرمة تصوير الحيوان كاملاً لم تكن في شريعة سليمان عليه السلام، وإنما هي في شرعنا، ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل، أو لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد (أي الورق)، أو جدارٍ مثلاً، وقد ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصوّرين ما ورد، فلا يُلْتفت إلى غيره، ولا يصح الاحتجاج بالآية".
تعلّق أعداء الصور بمرحلة مهد الإسلام، متناسين كل ما تلاها من حقب. فُتحت مكة المكرمة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، ودخلها الرسول وطاف بالبيت سبعاً، ورأى فيه صوراً، فأمر بطمسها، واتجه إلى الأصنام فحطّمها مردّداً: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" (الإسراء 81). بحسب ما رواه الواقدي في "المغازي"، "لم يكن رجل من قريش في مكة إلا وفي بيته صنم، إذا دخل مسحه، وإذا خرج مسحه تبركاً به"، فنادى منادي رسول الله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدعن في بيته صنماً إلا كسره أو حرقه". وروى مسلم عن أبي الهياج الأسدي: "قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".


بين التحليل والتحريم
قيّدت هذه الرؤية الدينية فنّ التصوير في العالم المسيحي كما في العالم الإسلامي على مدى قرون، وحجّمت فن النحت بشكل كبير، غير أنها لم تقض عليه تماماً. في الغرب المسيحي، عاد النحت إلى الواجهة في القرن الحادي عشر، وتحرر كليا من ثقل التحريم في عصر النهضة. في الشرق المسيحي كما في العالم الإسلامي، تمّ هذا التحرر في العصر الحديث، بمباركة كبار الشيوخ المتنورين. في مطلع القرن العشرين، زار محمد عبده متاحف صقلية، وأبهر بحرص الأوروبيين على حفظ تراثهم الفني، وقارن بين الشعر والتصوير، وقال: "إذ كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه في دواوينه، خصوصًا شعر الجاهلية، وما عنى الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى".
واجه محمد عبده هنا مسألة التحريم، وأضاف: "وربما تعرض لك المسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصورة في الشريعة الإسلامية، إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية؟ هل هذه حرام أم جائز أم مكروه أم واجب؟ فأقول لك إن الرسم قد رُسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصوّرون"، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تُتخذ في ذلك لسببين، الأول اللهو، والثاني التبرك بتمثال مَن تُرسَم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصوّر في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضوع النزاع، وأما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر". هكذا تبنى محمد عبده فنون التصوير بشكل لا لبس فيه، وختم كلامه بالقول: "إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل".
صار هذا الكلام نسياً منسياً في العقود الأخيرة، وعادت مسألة التحريم إلى الواجهة، وسيطرت على العقول والنفوس. يظهر هذا التحوّل بشكل قاطع في تحقيق أجرته صحيفة "الأهرام" مع مجموعة من طلبة كلية الهندسة في جامعة القاهرة في نهاية 2010. في هذا التحقيق الذي وصفه محرّره بـ"الفاجعة"، استنكر الطلبة الإقبال على مشاهدة الآثار والتماثيل الفرعونية وتقديرها، وقالوا إنها "ليست أكثر من أصنام تستحق التدمير"، وأكدوا "إنهم لو وصلوا إلى السلطة فلن يتورعوا عن تدمير كل الآثار الفرعونية حمايةً للناس من الشرك". من هذا المنطلق، أشاد هؤلاء الطلبة بتدمير حركة "طالبان" لتمثالي بوذا في باميان 2001، واعتبروا "أن ما فعلته حكومة طالبان هو الصواب، وأنه لا قيمة لاستنكار العالم، المهم إرضاء الله وتجنب غضبه، ودفع المنكر حفاظا على الاسلام وحماية المسلمين من الفتنة والافتتان، وفد انتصرت "طالبان" للاسلام، ولم تبال بغضب الغاضبين". في هذا السياق، أكدت هذه المجموعة الطالبية أن تاريخ مصر القديمة هو تاريخ كفر، وأن تاريخها الحقيقي يبدأ مع الإسلام، ورأت أن مَن يخالفها في هذا الرأي يتحدث في الظاهر بلسان اسلامي، "لكنه في النهاية لا يمكن أن يكون من الاسلام".


‎إلى متى؟
في الأمس القريب، هدم المتشددون من السلفيين الكثير من مقامات أولياء الله الصالحين في مصر وخارجها، وهدّدوا بهدم الآثار المصرية القديمة وفي مقدمها أبو الهول والهرم، وخرجت فتاوى تطالب بهدم هذه الآثار واجتثاثها. في الموصل، ظهر رجال من تنظيم "داعش" في تسجيل مصور وهم ينقضّون على الآثار، وقال متحدث منهم أمام تمثال آشوري مدمّر جزئياً: "إن هذه أصنام وأوثان لأقوام في القرون السابقة كانت تُعبد من دون الله، وتعود هذه التماثيل إلى حضارة الآشوريين والأكاديين وغيرهم كانوا يتخذون آلهة يشركون بها بالله ويتقربون إليها بشتى القرابين". وأضاف: "أمرنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإزالة التماثيل وطمسها، وفعل ذلك الصحابة من بعده لما فتحوا البلدان، وهذه التماثيل والأصنام عندما أمر الله بطمسها وإزالتها هانت علينا، ولا نبالي إن كانت بمليارات الدولارات". أمام أعين الناس أجمعين، انهال "الدواعش" بمطارقهم على تماثيل مدينة الحضر المحفوظة في متحف الموصل، على وقع آيات من سورة الأنبياء تروي قصة الخليل إبرهيم مع الأصنام وكيف أنه حطمها، وفي الختام، ظهرت على الشريط عبارة "فجعلهم جذاذا"، المأخوذة من الآية التاسعة والخمسين من هذه السورة.
دانت دار الافتاء المصرية تدمير آثار الموصل، وقالت ان تحطيم قطع تعود الى حقبات تاريخية سبقت الاسلام يفتقر الى "اسانيد شرعية"، موضحة أن المحافظة على التراث "أمر لا يحرّمه الدين". في مداخلة تلفزيونية، قال الشيخ الأزهري إبرهيم رضا "إن الإسلام لم يأمر بتحطيم الآثار بل جعلها دليلًا على  اختلاف البشر وتنوعهم واعتبرها تراكماً إنسانياً حضارياً"، وأشار إلى أن أميركا وراء تلك الهجمة الشرسة على الحضارات القديمة "لأنها لا تملك تاريخاً أو حضارة"، ورأى "أن الإسلام بريء من تلك الأعمال الهمجية". بعد دخول "داعش" إلى تدمر، خطا الأزهر خطوة إلى الأمام، ورأى أن الدفاع عن المدينة الأثرية من الدمار هو "معركة الإنسانية بأكملها"، غير أنه تفادى الدخول في مواجهة صريحة مع السلفيين الذين يستندون إلى "أدلة شرعية" في كل شاردة وواردة، والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: متى يتخلى الأزهر عن سياسة "تدوير الزوايا"، ومتى يدخل في مواجهة صريحة مع هذا الإسلام السلفي، أسوةً بكبار الشيوخ التنويريين في مطلع القرن الماضي؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم