الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

يوم شربتُ من كأس جوليان مور

المصدر: "النهار"
يوم شربتُ من كأس جوليان مور
يوم شربتُ من كأس جوليان مور
A+ A-

في خريف 2010، قابلتُ جوليان مور في حديث استغرق أربع عشرة دقيقة و32 ثانية. تحدثنا رأساً إلى رأس. كتفاً إلى كتف. وقلباً على قلب. شأنٌ نادر في ضوضاء المقابلات الصحافية المتتالية وإلحاح الملحقين بالنجوم على ايقاف آلة التسجيل بأسرع ما يمكن. جاءتني جوليان بقبضة يد ناعمة، ابتسامة مستنفرة، كلام مباشر، وبعمق ذي دلالات. وقفت أمامي وعرّفت عن نفسها: أنا جوليان مور. قلتُ لها ممازحاً: سمعتُ بهذا الاسم من قبل. ضحكت وجلست.


بعد ربع ساعة، عندما أدارت ظهرها وذهبت لمقابلة صحافي آخر، تركت على الطاولة كأساً من الماء كانت شربت منه قليلاً خلال المقابلة. بقيتُ جالساً في الكنبة، قبل أن ألتقط الكأس وأبلع كمية الماء الباقية. فقط بعد ثوانٍ قليلة، شعرتُ بطعم حمرة الشفاه على لساني. لقد أكلتُ حمرة شفتيها، من دون أيّ شعور بالرذيلة. ذقتها بأسناني، ثم ذابت مع قطرات المياه التي روت ظمئي؟ فيتيشية سيقول البعض. فيتيشية؟ نعم يا ستّي، فيتيشية. وهل هناك أروع من الفيتيشية عندما تتحلق حول جوليان ابنة مور!


مساء الأحد الفائت، عندما نادى ماثيو ماكونوغي على جوليان كي تصعد الى المسرح وتتسلم "أوسكارها" الأولى، استعدتُ ذلك اليوم الخريفي الجميل في أبو ظبي. واذ استعدتُ لحظة كهذه، فلأنني لم أنسها قطّ. كانت جوليان تريد بعد إنهاء المقابلة أن تزور مع زوجها مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي. وهذا ما فعلته، بعيداً من الكاميرات، لا لتثبت للآخرين شيئاً مما كما يفعله المشاهير عادة، بل لترضي فضولها، اذ قيل لها كم هو جميل هذا المسجد.
في سجلّ مور أكثر من ستين فيلماً. نالت جوائز كثيرة، منها في كانّ والبندقية، لكن الـ"أوسكار" ظلّت غصة في قلبها. أفهمها جيداً: فكيف تنالها غوينيث بالترو الأقل منها موهبة ولا تنالها هي؟ وكيف تفوز بها ميريل ستريب ثلاث مرات ولا تفوز بها مرة واحدة؟ كان عليَّ أن أمرّ عبر سؤال يطال الـ"أوسكار"، مضطراً، مع إدراكي المسبق أنها ملّت منه وقد تحسبني من الصحافيين التافهين. بيد أنني طرحته على "نفقتي" الخاصة. هاكم ما قالت: "طبعاً، لا أنكر ان هناك شيئاً غريزياً يظهر لدى الانسان ما إن يشارك في مسابقة، مما يجعله يريد الفوز. لكن، في نهاية المطاف، ما يهمني أكثر من نيل جائزة، هو العمل نفسه. ما يخيّب أملي الاّ أُمنَح الأدوار التي أريدها. طبعاً، كنت سررتُ لو فزت بالـ"أوسكار"، واعتقد أن كلاًّ من هيتشكوك وكوبريك كان سُرّ بدوره لو نال "أوسكار" أفضل مخرج".


مور من المتجددات في هوليوود. كالنبيذ المعتق، تراها تزداد جودة كلما تقدمت في السنّ. لكن الزمن المتبقي لها يروح يتقلص، والأدوار تبدأ بالذهاب الى الجميلات الصاعدات الأصغر منها سناً، وهذه المعضلة الأبدية عند الممثلات. صحيح أن روبرت ألتمان هو الذي أطلقها فعلياً في "شورت كاتس"، لكن ب. ت. أندرسون هو الذي أوصلها الى قلوب المشاهدين. وكان الأجدر بهوليوود المتمثلة بأكاديمييها أن تعترف بها منذ زمن. هذه ممثلة وأمّ تحارب في أكثر من خندق: الفنّ والعائلة والقيم الحقيقية للقارة الجديدة.


تألقت مور بدءاً من التسعينات. خلال هذه الأعوام كلها، اشتغلت في ادارة أفضل السينمائيين، في هوليوود وخارجها. دائماً كنا نراها تغتال فيلماً بآخر، تمحو شخصية بأخرى. تناقلتها الأيادي البارعة، هتفت لها القلوب: تود هاينز، جيمس أيفوري، ستيفن سبيلبرغ، الأخوان كووين، ديفيد كروننبرغ، لوي مال، غاس فان سانت، ريدلي سكوت. ودائماً كانت تبحث عن المزيد. "هناك الكثير من السينمائيين الكبار أريد التمثيل في إدارتهم"، تقول ثم بعد لحظة تفكير تتابع: "... ولكن أقول دائماً إن الحياة لا تمنحنا الا القليل من الوقت. يبدو أن حياة واحدة لا تكفيني".
في مسيرتها، هناك ما قبل بول توماس اندرسون وما بعده. فقد عرف هذا الرجل في "ماغنوليا" كيف يبني على هذه المرأة الصغيرة المنمنمة دوراً بحجم ليندا. مذّ دخلت ليندا تلك الصيدلية اللعينة لطلب دواء وتفجرّت بكاءً، فجّرت قلوب الكثيرين في حركة تمثيلية ناسفة. عندما بحثتُ في الـ"يوتيوب" عن مشهد الصيدلية لكتابة هذا المقال، لفتني كيف خلق اندرسون إيقاعاً واحداً بين سرعة نطقها والموسيقى التصويرية. كان على "الأوسكاريين" الكسالى أن ينتبهوا اليها منذ ذلك الحين. لم ينتبهوا اليها الا أخيراً!


لم أرتح إلاّ عندما قلتُ لها كم أحببتها في هذا الدور. اذا كان تمثيلها يغرف من نبع المشاعر، فالجالس بالقرب منها يلمس، ولو في دقائق قليلة، كم هي انفعالية وهادئة في آن واحدً. هذه الملاحظة أسعدت مور كثيراً، فقالت: "بول توماس نابغة، أعطاني فرصة لن تتكرر لأثبت قدراتي التمثيلية، وأنا شاكرة له. أنني مستعدة لفعل الكثير من أجله. في المشهد الذي تتحدث عنه، حيث تراني منهارة، كان عليَّ ان أتحلى بصرامة كبيرة، وإلاّ كان من السهل جداً أن أبدو مضحكة. كنت أثق ببول توماس وهو كان بالنسبة إليَّ حزام أمان".


هذه العصامية، أميرة شاشة، والدور تاجها، اضطلعت بالدور ونقضيه. حاكت ذاتها أحياناً. انقلبت على ما صنعها وصاغ ملامحها. وهذا كله شرّع طريقها الى نجومية قبضت عليها بـ"الجرم المشهود"، فيما كانت تجاوزت الأربعين. عندما بدأتُ حديثي معها بأكثر سؤال كلاسيكي، من مثل: ما الشيء الذي يشجعها على المشاركة في فيلم، قالت إنها، في السنوات التي نشطت فيها، كلما جذبت قصة معينة اهتمامها اكتشتف لاحقاً أنها من تأليف المخرج نفسه. وتابعت تروي برقتها وأنوثتها المعهودة: "أبحث عن القصة التي تلائم نظرتي إلى الحياة. أستطيع القول إنني لستُ فقط مهتمة بالشخصية، بل بالقصة في المقام الأول. بعض السينمائيين، من أمثال اندرسون والراحل روبرت ألتمان، لا حاجة لي أن أسألهم لماذا اختاروني، لأنني أشعر بأنني أنتمي الى عائلتهم. في الواقع، هناك ما يجهله النقادّ والصحافيون في هذا الشأن وهو أنّ نظرتنا، نحن الممثلين، الى النصّ المكتوب، تختلف عن النظرة التي يرمونها على المنتج النهائي. نحن، حين نقرأ النصّ، لا نعرف إلامَ سيؤول اليه، وأيّ شكل سيتخذه العمل. لذا المسألة برمتها مجازفة. أشعر نفسي سعيدة ومكتفية، مع القليل من الإحساس بأن الحظّ كان حليفي الدائم، لأنني استطعتُ التوفيق بين التجاري والفنيّ، وكلّ مشروع شاركتُ فيه أعتقد أنني عانقته وذهبت به الى الآخر، من دون تمييز. ربما هنا يكمن السرّ".


نحن أمام ممثلة اعتلت أيضاً خشبة المسرح في اقتباسات للمسرح الأوروبي من بيكيت الى تشيخوف، ــ مع أنها لم تمثل في أفلام أوروبية ــ اعترفت لي بأنها تقيم وزناً لحياتها الشخصية ولا تحب الابتعاد عن ولديها. أيام كان طفلها الأول صغيراً، كان السفر متاحاً، أما مع دخوله المدرسة، فصار الأمر شبه مستحيل. وبما أنها مصرّة على متابعة تربيتهما عن كثب، فقد ترتبت عليها بعض التضحيات. حكت أنه عُرض عليها منذ فترة أن تمثل في فيلم ألماني، وكان عليها تمضية أربعة اشهر في المانيا، وهي الفترة التي يستغرقها التصوير، لكنها رفضت عندما وجدت أن الفترة هذه طويلة: لم ترد الابتعاد عن ولديها طوال تلك الفترة. "الخيار لا يعود لي"، قالت راضية بهذا المصير، "ما دام عندي عائلة فعليّ الاهتمام بأفرادها".
أنا: "يأخذ عليكِ البعض امتلاكك طموحات يقولون إنها فضفاضة، كتأليف الكتب والتمثيل في أفلام تجارية". هي: "الحياة ليست كلها منظمة كما يعتقد هؤلاء. التناقض سمة الحياة، ووحده حبّ التجربة والذهاب الى أراضٍ مجهولة يجعلانني أغامر. دائماً أقول لولديَّ وأصدقائي: اذا كان هناك شيء تريدون اختباره، فليس عليكم الاّ أن تختبروه! لا اعتقد أنه علينا أن نباشر أيّ عمل فقط بهدف أن ننجح وأن نصل الى مرتبة معينة من التفوق. هناك أشياء نفعلها وحسب، ويكون العمل في ذاته الهدف والغاية. لا بأس اذا كان الهدف من بعض أفعالنا مجرد الفعل. ينسحب هذا الشيء على الشخصيات في الأفلام، اذ تراها تمتلك فكرة واضحة وجاهزة عمّا ستفعل، في حين أن هذه النزعة تكاد تكون معدومة في الحياة".


تؤكد جوليان مور خلال اللقاء أنها تعمل بالطريقة القديمة: اذا كانت الشخصية في الفيلم تمتطي حصاناً، فلتسارع الى تعلم كيفية ركوبه. تنحاز الى العمل التطبيقي ولسيت غريزية كما الحال مع زميلاتها الأوروبيات. لم أعد أذكر ما الذي أوصل الحديث الى الجنس في السينما، فرأيتها تستجيب للدعوة الى الحديث عن هذا الموضوع الشائك بانفتاح كبير، قائلة إنها لا تمانع البتة في الظهور عارية. "... ولكن عندما يكون شريكك في التمثيل في الرابعة والعشرين، ويكون عندك مشهد مضاجعة معه، تدرك أن المسألة أصعب قليلاً. لم أظهر في فيلم الا قبّلتُ فيه أحدهم. قبّلتُ ممثلين وممثلات. ومن حسن حظنا أن أهل هذه المهنة بارعون في التقبيل (ضحك). لكن، هناك بعض النفاق في التعامل مع الجنس في السينما الأميركية. بعض المَشاهد الجنسية تُمنَع لمن هم تحت سنّ معينة، أمّا العنف فلا مشكلة اذا شاهده أيٌّ كان. وأنا أقول لهؤلاء: الجميع يمارس الجنس ولكن ليس الجميع يرمي القنابل اليدوية!".


أميركا بحسب جوليان مور


عن نشاطها في الشأن الاجتماعي والسياسي، الى جانب مناصرتها قضايا المثليين جنسياً، تصرّح جوليان بلا لفّ ودوران: "أؤمن بالتغيير من خلال الانتخابات. كوني ديموقراطية وانتخبتُ أوباما، فهذا يعني أنني "حاربتُ" بوش بطريقة أو بأخرى". عند مور حصر الجنسية الأميركية في اطار التجاذبات السياسية خطأ جسيم. بالنسبة اليها أن تكون أميركياً يعني أن تكون من كل مكان: "هذا هو الأساس في الموضوع، والباقي تفاصيل. هذا شيء ننساه أحياناً. هذا شيء تنساه دولتنا في سياستها الخارجية الظالمة في كثير من الأحيان. لا أريد أن أدخل السجال السياسي العقيم، لكن يجب أن يعلم الجميع أننا كأميركيين ضقنا ذرعاً من النحو الذي يُنظَر فيه الينا، بسبب حماقات يرتكبها البعض باسمنا. هذه بلاد تحمل رسالة سامية. نحن بلد حديث، وعلى كلّ مواطن أميركي أن يتذكر صباحاً وظهراً ومساءً، أن أصوله من مكان آخر. هذا الخليط من الحضارات والديانات والثقافات، رسالة في ذاتها. والشيء العظيم في أميركا، أنها تتيح لك ممارسة معتقداتك بحرية مطلقة، وهناك مكان للجميع، ولا تجبر المهاجرين الجدد على التكيف. في المقابل، لا بدّ من القول، إن الزمن الذي نعيشه اليوم عسير، أقله اقتصادياً. سقى الله زمناً كانت أميركا فيه أرض الأحلام وكان فيه للجميع القدرة على النجاح وبناء حياة راقية. سابقاً، كان الشعار أنه يجب أن تكون حياتنا أفضل مما كانت عليه حياة أهلنا وأجدادنا. مفاهيم النجاح تغيرت عبر الزمن. مع هذا كله، يبقى لمن يحمل الجنسية الأميركية سمة وهي أنه يؤمن بالممكن دائماً".


 


[[video source=youtube id=vXRqxDQyzZ0]]


 


[[video source=youtube id=ugaSAUTVZ8M]]


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم