الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

طرابلس النازفة ورحيل نقابي أكاديمي

طلال خواجة
A+ A-

تعرفت على مصباح الصمد في ثمانينات القرن الماضي، ولكن علاقتنا تعززت في النصف الثاني من التسعينات على خلفية مقاربتنا الأكاديمية المستقلة لقضية الجامعة اللبنانية ودور فروعها الشمالية.


كان أن مركزية الجامعة في بيروت استحوذت على السلطة الأكاديمية والإدارية و"خيراتها" عبر المحاصصة المذهبية والفئوية، تاركة الفتات للأطراف. وكذلك فإن القوى السياسية، المذهبية بمجملها، حاولت الإستحواذ على رابطة الأساتذة. وقد أبدى الأساتذة الشماليون، خصوصاً أصحاب السوابق اليسارية، مقاومة قوية لهذا الجنوح المذهبي.
وفي خضم هذه الصراعات والمخاضات تقدم الأكاديمي الراحل مصباح الصمد صاحب التاريخ النضالي (عبر لجنة الحوار الدائم مع سمير فرنجية وفارس سعيد والراحل هاني فحص وآخرين)، فكان لنا خير زميل وعون وصديق في إدارة الصراع من الضفة الطرابلسية بما يحافظ على الحد الأدنى من الصدقية النقابية والأكاديمية في مواجهة صعود النجوم المذهبية في كل مكان.
ومن سخرية القدر أن تمسكنا بتنوعناً وعلمانيتنا، خصوصاً في الفروع الشمالية شكل مدعاة تندر واستغراب في بعض الأوساط الأكاديمية، بمن فيهم من يفترض أنهم من أصحاب السوابق العلمانية، علما أننا تواصلنا مع بعض رموز ورومانسيي الجامعة اللبنانية كنزار الزين وصادر يونس وجيلبير عاقل وعصام خليفة ورفاق حسن مشرفية الكثر.
لقد شكل دخول الراحل إلى الحلبة النقابية إضافة نوعية خصوصاً أنه احتفظ ببنية فكرية حوارية هادئة ورصينة وبمكانه أكاديمية تجلت في التعليم الراقي وتحقيق المراجع والترجمات والأبحاث فضلاً عن الإشراف على الرسائل الذي لم ينقطع أبدا في الجامعات اللبنانية والعربية. ورغم أن الراحل امتاز بسعة الأفق الثقافي وسكنته هموم الوطن والمنطقة عموماً، إلا أنه آمن بثنائية الموقف والإنماء، لذا كان أحد مطلقي حركة البناء الجامعي في المون ميشال منذ قاربنا (كأعضاء شماليين في قيادة رابطة الأساتذة) الراحل الكبير رفيق الحريري حول هذا الموضوع في موازاة إنجاز المدينة الجامعية في الحدث في النصف الثاني من التسعينات.
وحين تقدمت قضية البناء عبر نقل الملكية والإستملاكات والدراسات وبعض التلزيمات، كان مصباح من أوائل الداعمين والمؤسسين لحركة بوزار التي هدفت في البداية إلى تعويض أهل منطقة القبة وجوارها بعضا مما سيخسرونه من انتقال الجامعة للمون ميشال.
لقد اطلقت بوزار مع الراحل ورفاقه حركة تحديثية في المنطقة والمدينة وكل الشمال قال فيها الشهيد جبران التويني "بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية". وسرعان ما تصاعدت وتحولت هوساً تحديثياً بعد زلزال الإغتيال في 14 شباط.
لم يكن مصباح، رغم استقلاليته المعروفة وهدوئه المميز وعلاقاته المتنوعة وطبيعته الحوارية، حيادياً حيال الإنقسامات السياسية منذ تشكل النظام الأمني السوري اللبناني. علماً أن صلابته ظهرت في المراحل الأولى من السيطرة السورية خصوصاً في طرابلس، لذا لم يكن صعباً علينا إقناعه بالعدول عن الترشح للنيابه سنة 96.
شارك مصباح الصمد في إنتفاضة 14 آذار والتي ظهر فيها اللبنانيون ولو ليوم واحد،وكأنهم من نسيج واحد وطائفة لبنانية واحدة ما جعلهم قبلة الشعوب العربية من جهة وهدف الأنظمة العربية القلقة من هذه الظاهرة الربيعية من جهة أخرى. ورغم حماسة مصباح لهذه الإنتفاضة التي أخرجت القوات السورية من لبنان و أضاءت جزءا من النفق المظلم، إلا أنه حذر مبكرا من الألغام الطائفية والمذهبية في مكوناتها كما عمل مع رفاقه في طرابلس والشمال وكل لبنان من أجل إعادة تكوين القوى الديموقراطية والعلمانية والمتنورة ضمن الحركة السيادية الإجمالية، خصوصاً بعد تصاعد الصراع المذهبي في أعقاب حرب 2006 .
لقد تألم الراحل من الهجوم على الحركة الإستقلالية ومن الجرح الذي أعيد فتحه في طرابلس وأدى إلى تراجعها الدراماتيكي على كل الصعد وصولاً الى ملامسة الفشل، خصوصاً بعد تحرك الفوالق السورية وانكشاف خطورة المشاكل البنيوية في المنطقة بعد انتفاضات الربيع العربي الذي تحول دامياً ومرعباً في سوريا والعراق ومعظم المنطقة ما أربك قوى التغيير والإعتدال والتعدد وأطلق قوى التطرف المذهبي والطائفي والإتني من كل الضفاف، خصوصاً من الضفتين السنية والشيعية. ومع ذلك فقد ظل إيمان أستاذ اللغة الفرنسية الراحل بالتغيير قويا، وهو الشغوف بالثورة الفرنسية وأدبائها والعارف بحجم ومندرجات مآسيها وتقلباتها قبل أن تصبح قبلة للثائرين والعاشقين والحالمين.
ولطالما رددنا سويا ما قاله أنطونيو غرامشي للمحبطين من صعود الفاشية والنازية وغيرها منذ حوالى القرن بأن "العالم القديم يتغير والعالم الجديد يتأخر في البزوغ وفي هذه الأثناء تكثر الوحوش الضارية"، وما أكثر الوحوش الفالتة في هذه الأيام.
ورغم الإنكفاء النسبي للراحل الباسم أخيراً بسبب المرض الذي ألم به، فقد تابع نشاطه الفكري والأكاديمي وحافظ إلى حد كبيرعلى تواصله مع كل المواقع والمحطات التي عمل لها ومن خلالها بما فيها النشاطات السياسية والإنمائية إلى أن غادرنا بهدوء ودون صخب. وكما توقف سيف الدين ضناوي عن ميني منتدى "البان دور" فإن مصباح الصمد لن يلتحق بميني منتدى"كريم باش".
لقد رحل باسمان بارزان من عالمنا، إلا أننا سنتابع الإبتسام وسنظل نمتهن ثقافة الأمل والفرح والحياة.


استاذ في الجامعة اللبنانية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم