الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

رجال والدتها [1]

جورج موسى
جورج موسى
A+ A-

في كل مرة نهرب فيها إلى الورقة والقلم، نحاول أن نصنع لأنفسنا عالماً خيالياً. نعم، الكتابة ليست سوى بطولات وهمية، ندّعي من خلالها أننا قادرون على الإمساك بزمام الأمور. في كل مقال، ترانا نمرر أفكاراً عن حياة مشتهاة، بعيدة عن تلك التي نختبرها في الواقع. نهرب إلى عالمنا الخيالي لنعود ونكتشف أن الواقع أحياناً قد يكون أغرب من الخيال.


لم تكن القصة التي تعيشها بطلة هذه السطور لتبصر النور لولا إذن صاحبتها. حكاية غير عادية في التفاصيل والوقائع وربما في نهايتها. والبداية من النهاية. نهاية مرحلة صعبة، جعلت تلك السيدة أسيرة غرفة صغيرة لأشهر طويلة.
في آخر يوم، وقفت ساعة كاملة أمام المرآة التي صارت تعرف عنها ألف حكاية. طيلة فترة إقامتها في ذلك المكان، شكّلت ملاذاً لها. كانت المرأة تهرب إليها في لحظات الضعف والانهيار والثورة والغضب. لم يكن سهلاً البتة على سيدة اعتادت حياة الرفاهية أن تتخلّى عن كل شيء لتُجبر على التأقلم مع نمط عيش مذل.
فجأة، انقلبت الأيام رأساً على عقب. راودتها فكرة الهرب مرات عدة لكنها لم تنجح. فكرت حتى بالانتحار، لم تقوَ على ذلك. ليست ملاكاً ولا ضحية. تعرف أنها كانت مذنبة. الذنب بالنسبة إليها كان مسألة نسبية. لم تعش حرماناً وهي صغيرة. لم تختبر القفر المدقع. لكنها امرأة أحبت المال. ومن أجل المال، فعلت كل شيء. تزوجت في سن صغيرة من رجل متوسط الحال، وسرعان ما حملت وأنجبت طفلة. لم تكن حياتها مع زوجها عادية. ذلك الشاب الحزبي المندفع، كان يتركها ليال كثيرة وحيدة مع رضيعتها فيما هو مشغول بتفاصيل الفصول الأخيرة من الحرب الأهلية. عاشت لحظات رعب عصيبة، لاسيما خلال فترة "حرب الإلغاء" كما تخبر هي. قلبها لم يحتمل كل هذا الخوف. قلبها أيضاً بدأ يخفق لفكرة تجميع الثروات. هي امرأة جميلة. يكفيها أن تفكّر بذلك لتبدأ مخططاتها. دخلت في علاقة مع رجل ثري. أجبرت زوجها على الطلاق. أخذت معها ابنتها، وبدأت تطفئ رغبتها الجامحة في تجميع الملايين. لم تكن يوماً تعرف سبب هذا التعلّق بالمال. لكنها كانت تبحث عن سلطة ما.
شيئاً فشيئاً بدأت تجمع ثروة طائلة، وبوسائل مشروعة وغير مشروعة. علاقات مشبوهة، عمليات نصب، ضروب احتيال. تسعة رجال، دمّرت حياتهم، وسلبت منهم ومعهم الكثير من المال. حتى والدها المسكين، سلبت منه تعويضه وقطعة أرض. أحبت المال كثيراً، لكنها أيضاً تعلّقت بإبنتها بشكل جنوني. كانت تلك الصغيرة تعيش معها، فكبرت وفي داخلها مئة عقدة سببتها والدتها وحياتها ورجالها.
فجأة انقلب السحر على الساحر. الرجل العاشر، حاك مؤامرته ضدها. لا تعرف كيف تمكن من جعلها تخسر كل شيء. سلب منها الكثير من المال، قبل أن يورطها بتزوير اوراق وشيكات بلا رصيد، ويدخلها السجن بتهمة الاحتيال.
ظلت في السجن سنتين ونصف السنة تقريباً. اليوم موعد خروجها الى الحرية. لم تكن تفكر سوى بإبنتها. أخبروها أنها قررت الإرتباط. آخر لقاء جمعهما كان قبل سنتين وستة أشهر وأربعة أيام وثلاث ساعات. في هذا المكان، يمر الوقت بشكل مختلف. المكان والزمان أساساً لا يحتلاّن هامشاً بارزاً من الحياة. هي على يقين تام بأن الإبنة لن تأتي لمرافقة والدتها في هذه اللحظات المفصليّة.
فُتح الباب، صوت السجّانة يخترق الصمت. حان موعد استعادتها للحرية. في الخارج عشرات الأسئلة المعلّقة في انتظارها: ابنة حاقدة، عائلة عاتبة ورجال عدة يتربّصون بها ليتلذّذوا بوجبة الانتقام، بهدوء.


[email protected]
Twitter: @moussa_georges

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم