الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

البقاء كوجود فكري

جمانة سلّوم حداد
A+ A-

شاهدتُ أخيراً فيلمين في الصالات اللبنانية تركا فيَّ أثراً عميقاً، "لوسي" للوك بيسون، و"Transcendence" (تَجاوُز) لوالي فيستر. الفيلمان يلتقيان في فكرتهما الرئيسية عن العقل البشري، ويقدّمان في شكل "تبسيطي" - وأحياناً مغالٍ في هوليووديته - تصورات علمية كنتُ اطلعتُ عليها في كتاب استثنائي لعالِم الفيزياء ميشيو كاكو، عنوانه "مستقبل العقل".


قد يبدو للمتلقي العادي غير المجهَّز علمياً، أنّ "لوسي" و"Transcendence" من نوع الخيال العلمي، لكنهما ليسا كذلك حقاً. فقدرات العقل لا تزال أرضاً عذراء الى حد كبير، وما يستطيع هذا العقل إنجازه لم يتحقق بعد إلا في حدّه الأدنى. أضف الى ذلك أني من أولئك "الرومنطيقيين" المقتنعين بأننا إذا تمكنّا من تخيّل أمرٍ ما (في فيلم أو كتاب، الخ)، فلا بدّ قادرون على جعله واقعاً في أحد الأيام. وقد أثبت تاريخ تطورنا الإنساني، في صالحه وطالحه، صحة هذا التصور على مر السنين. أي أننا سنتمكن في الغد من استثمار عقلنا بدرجاتٍ تجعل قدرات دماغنا المستقبلية تبدو اليوم عجائبية ومستحيلة، على غرار "لوسي"، وسنتمكن أيضاً من تحميل وعينا على ذاكرة الكترونية، على غرار بطل "Transcendence"، ما سيتيح لنا "البقاء" كوجودٍ فكري (بكل ما يحويه هذا الوجود من ذكريات ومشاعر وتجارب وخصائص) بعد فناء جسدنا الأرضي بقرون. هذا ما يقوله أصلاً ميشيو كاكو في كتابه المذكور أعلاه، اذ يخبرنا أنه سيتاح لأجيال المستقبل أن يتواصلوا مع أسلافهم الذين "ماتوا" جسدياً منذ وقت بعيد، من خلال المحافظة على هؤلاء الأسلاف كوعي على جهاز كومبيوتر، وهو وعي ليس جامداً، أي لا يتوقف تطوره عند لحظة الوفاة، بل يتوسع ويزداد ويكبر ويتفاعل مع محيطه فكرياً وشعورياً.
يعيدني هذا التصور الى واقعنا المأزوم، لأنه يمثل في رأيي خلاصاً من تحكّم الشعوذات الدينية بعقول الناس، وهو تحكّم يتمّ بواسطة نقطة قوة مطلقة هي خوف البشر من الموت. عندما ينجح العلم – وسينجح، ربما ليس في زمننا نحن ولكن في زمن ليس ببعيد – في تقديم بديل من خرافات الآخرة والدينونة والجنة والشيطان والنار والحوريات، وسيتمكن في الآن نفسه من تجريد هؤلاء المشعوذين من سلاحهم الأقوى والأمضى. آنذاك ربما يكتشف الناس أخيراً أن ذلك الإله الذي يسجدون له ويتضرعون إليه ويطلبون منه السماح والرحمة تارة، ويرتكبون طوراً باسمه أفظع الجرائم، ليس سوى عقلهم ووعيهم.


[email protected]
Twitter: @joumana333

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم