الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

صحة جنسية - الكل يعزّه... فهو يعيش حداداً عاطفياً!

الدكتور بيارو كرم
A+ A-

الحداد العاطفي له العديد من أوجه التشابه مع الحزن ومراحل الحداد المرتبطة بالموت، مع فارق أساسي، هو الرفض الذي لحق بنا. من المهم أن نأخذ رفض الآخر لنا في الإعتبار خلال مراحل الشفاء، كونه يرتبط مباشرةً بتقدير وإحترام الذات والثقة بالنفس. قلّة منا تتمتع بالقدرة على إجتياز مثل هذه المحنة. من هنا علينا إضافة مرحلة على مراحل الحداد في عملية الشفاء، ألا وهي مرحلة الإستيعاب Phase D'Intériorisation.


مراحل الحزن في الحب ليست متساوية زمنياً، ولكنها تتمّ وفقاً لتسلسل معيّن ولمسار دوري. يمكن خوضها جميعاً في غضون بضعة أيام أو الركود في إحداها لفترة أطول. فهي تتداخل وتتكرّر حتى الشفاء الكامل.


المرحلة الأولى: الدمار الشامل-الإنهيار la dévastation
ما بني على مدى اعوام أو خلال الفترة الأخيرة يشارف الإنهيار إن لم يكن قد دمّر فعلاً. هذه المرحلة الأولى من الحزن هي الأكثر صعوبة. المعاناة مؤلمة، ونعتقد أنها سوف تدوم إلى الأبد. أولاً وقبل كل شيء، لا نصدّق ما يحصل لنا. نشعر بأنه كابوس فظيع. نحن في حالة من الذعر الشديد. حتى أننا قد نفكّر في الإنتحار، لأننا نشعر بأنه لم يعد لحياتنا قيمة أو معنى،
كما نشكّك في قدرتنا على إجتياز هذه المحنة.
دمّرنا الرفض المفاجئ وتضعضع بشدّة إحترامنا للذات وضاعت ثقتنا بالنفس. نحن منهارون بالكامل، ونتساءل من أين سوف نجد القوة للوقوف مجدداً على قدمينا. لا يغيب عن بالنا أنها مرحلة مؤقتة. علاوة على ذلك، ينتابنا العديد من الاعراض البدنية خلال هذه المرحلة. سببها الدماغ الذي يعتبر أن ما يحدث يهدّد بقاءنا على قيد الحياة، لذا يوضع كل الجسد في حالة تأهب. البعض يشعر بأنه منفصل تماماً عن العالم الخارجي ويضع نفسه ومشاعره في كرة جوفاء. توصلّت البحوث إلى أن الدماغ، في المرحلة الأولى من الحداد، يعمل على إنتاج مواد لها تأثير مسكّن، ومن هنا الإحساس بالصدمة الذي نشعر به.
هذه هي الخطوة الأكثر صعوبة في تفكيك حدّة المعاناة. خلال هذه المرحلة نشعر بألم بالغ وبأعراض بدنية مثل الغثيان والتقيؤ وفقدان الشهية، وإضطرابات في النوم وما إلى ذلك. هنا علينا تجنّب التنبّؤ بالمستقبل. كلما توقّعنا وإستبقنا الامور وما قد يحصل، إزدادت حدّة مخاوفنا وشعرنا بالتوتر والقلق.
في هذه المرحلة، تمارين التنفس هي الأنسب. وأفضل ما يمكننا القيام به، هو أن نعيش الحاضر قدر الإمكان بغية العثور على قليل من السلام والهدوء والطمأنينة رغم جميع المشاعر المتطرّفة والمخاوف التي تجتاحنا. علينا محاولة عيش الوقت الراهن قدر الإمكان والتركيز على التنفس وعلى الطريقة الأسهل للقيام به. ويكمن التحدي الأساسي في هذه المرحلة في أن نتعلّم كيف نعيش من دون الآخر ونتقبّل هذا الوضع.


المرحلة الثانية: الإنطواء على الذات، الإنكماش والتقهقر le sevrage
علينا أن نتعلم الآن عيش الحياة من دون الحبيب والتعايش مع الحاجات غير المُشبَعة أو التي تنشأ في ظل غياب العلاقة. حالة مشابهة من جميع النواحي لما يحصل عند الإقلاع عن تناول المخدرات. الشعور بالنقص، حالة من الهيجان والترقّب الدائم. يسكننا الأمل في عودة الحبيب، وهذا يؤجّج الألم والمعاناة. شعور عميق بالحاجة إلى رفقة الحبيب والإنصهار والتماهي معه. يحاول البعض معاودة التواصل، فيما آخرون يكونون مستعدين لكل شيء من أجل إستعادته. نمرّ بحالة من إنعدام المودة والأمان، ولدينا رغبة جنسيّة كبيرة. نشعر أحياناً أننا قادرون على تخطّي كل ذلك لكننا نغرق في اليأس... نشعر بكلّ ذلك لأن العلاقة كانت تلبّي العديد من الحاجات التي يقوم عليها توازننا النفسي والعاطفي... ومن الشائع أن نرى أن البعض يسارع إلى إقامة علاقة جديدة لسدّ هذه الفجوة وهو أمر لا أنصح به على الأطلاق. إنما أوصي خلال هذه المرحلة بالإهتمام بحاجاتنا غير المشبعة. وثمة وسائل عديدة لتلبية هذه الحاجات. على المرء أن لا يضع كل ما يملك في سلة واحدة، وإلّا إن ضاع أمر منها، يحلّ الدمار بالبقية. والحل الأمثل هنا يكمن في البحث عن توازن في طريقة سدّ هذه الحاجات. العلاقة العاطفية هي إحدى هذه الطرق، ولكنها أبعد من أن تكون الوسيلة الوحيدة.


المرحلة الثالثة : الإستيعاب intériorisation
هذه المرحلة ذات سمة مميّزة في الحداد العاطفي، فخلالها نقوم بكبت الغضب الذي نشعر به حيال الآخر ونقوم بجلد الذات ونصبّ غضبنا على ذاتنا. يصبح الشريك الذي هجرنا مثالياً ويتراكم الأسف والشكوك. هي مرحلة نقول فيها لأنفسنا بأنه كان يتوجّب علينا أو كان بإمكاننا القيام بـ... نندم على عبارات وأمور قمنا بها. نصبح موضوع غضبنا. خلال هذه المرحلة تكون حاجاتنا إلى العطف والدعم من المقرّبين غالباً غير واقعية. نصبّ عليهم غضبنا على الشريك لأن الغضب يُؤذي حظوظنا مهما كانت ضئيلة في إستعادته. تقدير الذات يكون في أدنى مستوياته. والذلّ والمهانة اللذين نشعر بهما بسبب الهجر والنبذ، يدفعاننا إلى الإنعزال وإلى كتمان مشاعرنا. نقلّل من قيمتنا وشأننا وتصبح عزلتنا الدليل إلى أننا لا نستحقّ الحب. نشكُّك في قدرتنا على الحصول على الحب الذي نفتقد إليه كثيراً. نشعر بأننا غير مرئيين، ونخوض أزمة هوية عميقة.
وللخروج من هذه المرحلة، علينا التوقّف عن إنتقاد الذات. وعندما يبرز هذا الإنتقاد ونشعر بأننا غير جديرين بالحب وأنه لن يقع شخص آخر في حبنا من جديد وغيرها من المشاعر السلبية، علينا التحلّي بالحزم وتعداد الأسباب التي تظهر لنا أننا نستحقّ الحب. علينا تكرار هذا الأمر قدر الإمكان، عشرات المرات خلال النهار في بداية الأمر.


المرحلة الرابعة: الغضب La Rage
خلال المراحل السابقة كان الغضب وسيلة للتنفيس. أما في هذه المرحلة، فنحن مستعدّون للدفاع عن أنفسنا. الغضب في هذه المرحلة إيجابي يمنحنا الطاقة الضرورية لتكوين أو أعادة تكوين تقديرنا للذات، ما يسمح لنا بتخطّي هذه المحنة. التعبير عن هذا الغضب أساسي في عملية الشفاء. نحتاج إلى كل أنواع التغيير: قَصّة الشعر أو ديكور المنزل أو المشاركة في أنشطة جديدة أو السفر وغيرها من الأمور. نعيش إنقلاباً على النبذ والهجر. نتخلّص من المشاعر والرسائل السلبية من خلال التعبير عنها. نتحرّر من الندم. الشريك لم يعد مثالياً وأصبحنا قادرين على رؤية عيوبه. نحلم بالثأر والإنتقام منه لكي يعاني كما عانينا.
نحن على وشك الإنفجار في أي لحظة. ولكن هذه المرحلة تتسّم بما هو أبعد من مجرّد الغضب، فهي أيضاً مرحلة التقبّل. علينا تقبّل الواقع عوض الغضب بسبب أمور وأشياء خارجة عن سيطرتنا. اللعنة على الواقع هو التحايل على الحداد. أما قبول هذا الواقع فهو تقبّل ما يرافقه من خسارة وإستسلام ورفض. نحن على مفترق طرق: يمكننا الإستمرار في الإحتجاج على ما لا يرضينا أو إتخاذ القرار بمواجهة الواقع. إن قاومنا ما يحدث لنا، نُعرّض أنفسنا لمعاناة بالغة. علينا مواجهة الظروف القائمة والبحث عمّا يمكنّنا القيام به لتحسين وضعنا. خلال هذه المرحلة من الحداد العاطفي، يتحوّل محور الغضب من الداخل إلى الخارج. نعيش الغضب ولكنه غضب إيجابي يدفعنا إلى الأمام ويسمح لنا بالخروج من الأزمة.
في هذه المرحلة تبدأ عملية الشفاء الحقيقية. نشعر بأننا مستعدون لطيّ صفحة الماضي والإهتمام مجدداً بأنفسنا. نستعيد الأمل. وإن كنّا بحاجة للتعبير عن غضبنا تجاه الآخر، علينا أن لا نتردّد في القيام بذلك وجهاً لوجه أو من خلال رسالة أو مذكرات شخصية أو حتى الصراخ في مكان نكون فيه وحيدين... كما أقترح تمريناً بسيطاً يمكننا القيام به يومياً. هذا التمرين سيساعدنا في تغيير ما نفكّر به وإدخال أمور إيجابية على حياتنا. في الصباح، نُدوّن أمرين أو ثلاثة نرغب في القيام بها خلال النهار. وقبل النوم، نُكمل الجملة التالية: "أشعر بالفخر لأنني قمت بـ...".


المرحلة الخامسة: النهوض Le relèvement
نصل أخيراً إلى القمّة. أصبحنا قادرين على النظر إلى الوراء والتطلّع إلى المستقبل ووضع مسافة بيننا وبين ما حصل. أصبحت الأمور أوضح بالنسبة الينا ونشعر بالسلام والطمأنينة. نحسّ بأننا أقوى وبأن الحياة دبّت فينا مجدداً. خفّت حدّة الضغط والألم وأزيحت الهموم عن كاهلنا. نشعر بأننا مستعدّون لخوض غمار الحياة مجدداً. تحسّن تقديرنا للذات ونُدرك بكل فخر الإنجازات والتقدّم التي أحرزناها. نحن أقرب إلى مشاعرنا وقادرون على تقبّلها. ننفتح على لقاءات جديدة ونشعر بأننا سنكون قريباً على إستعداد لتبادل الحب. ولتعزيز هذا الشعور بالطمأنينة، علينا الشعور بالإمتنان لما تقدم لنا هذه الحياة ولتغلّبنا على هذه المحنة والإمتنان للمقرّبين منا. لا حدود للإمتنان. كلما شعرنا به، أصبح المجال أضيق أمام المعاناة والألم وإزداد تقبّلنا للوضع وإستقطابنا للأمور الجميلة والجيدة.


إختصاصي في الصحة النفسية والصحة الجنسية
www.heavenhealthclinic.com


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم