الأحد - 05 أيار 2024

إعلان

"النهار"- يومان في مرفأ بيروت... بحثاً عن الشهداء والمفقودين والحقيقة

المصدر: "النهار"
اسكندر خشاشو
اسكندر خشاشو AlexKhachachou
"النهار"- يومان في مرفأ بيروت... بحثاً عن الشهداء والمفقودين والحقيقة
"النهار"- يومان في مرفأ بيروت... بحثاً عن الشهداء والمفقودين والحقيقة
A+ A-

لم أكن يوماً مراسلاً حربياً، ولم يستهوِني هذا التخصص من الأساس، ولطالما كرهت الحرب وويلاتاها، رغم أني لم أتعرف إليها ولم أعش لحظاتها. لكن ما جرى في مرفأ بيروت والانفجار الهائل الذي دمّر بيروت دفعاني بسرعة للتوجّه إلى مكان الحدث، بعدما نجوت بفعل العناية الإلهية من التواجد في مكاتب الجريدة لحظة الانفجار.

وفي ظل الفوضى والزحمة في المكان، غافلت القوى الأمنية التي كانت تضرب طوقاً حول المكان، واحتميت بسيارة للدفاع المدني، تمكّنت من الدخول إلى مكان الانفجار، وكانت النيران ما زالت مشتعلة في أكثر من نقطة داخل المرفأ.

بداية فرحت باختراقي هذا، ممنِّياً النفس بسبق صحفي أقدّمه من موقع الحدث، وربما كنت الوحيد الذي استطاع الدخول إلى هذه المنطقة في هذا الوقت. ولكن كلما توغّلت في الداخل، بدأ فرحي يتبدّد. دمار، نيران، روائح، لا شيء مكانه، كأنه غضب الله حلّ على الأرض، لا طريق واضحاً، لا طريق يمكنك اتباعه، وكأنك هائم على بحر من الدمار لا تعلم أين تنتهي.

رأيت مجموعة من الدفاع المدني ومتطوعي أفواج الإطفاء، تقدمت صوبها باحثاً عن المعلومة، عن أي خبر من الداخل، لكن عند وصولي إليها، كان المشهد مختلفاً. مجموعة من الشبان يبكون زملاءهم. هم لا يعلمون عنهم شيئاً. فقدوا الاتصالات معهم، هم من الفرق الأولى التي تدخلت بعد الانفجار. المشهد مفجع، يرددون أسماءهم، يبكون، ينفعل أحدهم رافضاً الخسارة، "ليس قدرنا أن نخسر رفاقنا عند كل حدث"، ثم يجهش بالبكاء، يحاولون العضّ على جراحهم لتنظيم أنفسهم ومحاولة إنقاذهم أو إنقاذ غيرهم. يتدخل أحد الضباط مشدداً على إعادة التنظيم والتدخل من الجديد بغض النظر عن الخسائر. في هذا الوقت يلحظ أحدهم فتاةً تركض باتجاه العنبر الذي ما زال مشتعلاً. لا أحد يعلم كيف دخلت ووصلت. ركضنا جميعنا باتجاهها لمحاولة ثنيها. كانت بحالة تشبه الجنون. تبكي وتتوسل إنقاذ أخيها الموظف في المرفأ، هي لا تعلم عنه شيئاً منذ لحظة الحادث، ولا أحد يجيبها عن أسئلتها، فقررت بنفسها إيجاده... لم أتحمل المشهد ولا الصدمة، ولم أستطع حتى أن أهدئ من روعها أو مواساتها، فتركتها مع عناصر الدفاع المدني وابتعدت، تمالكت نفسي رغم الألم الذي رأيته. تقدمت أكثر من النيران. كانت مجموعة من الجيش والقوى الأمنية، فاقتربت أيضاً لأرى مشهداً لا يقلّ قساوة عن المشهدين الأولين، يتكلم أحد الضباط على الهاتف ويقفله. وبالفعل انهمرت الدموع من عينيه. بدا في حالة ضياع، لا يعلم ماذا يفعل وماذا يقول لجنوده، سمعته يقول: لا مازوت لبعض آليات الإطفاء، هذا غير معقول". كانت هذه المشاهد أقسى من أن أتحمّلها قررت الانسحاب من المرفأ راكضاً، لم أعد مهتماً لا بسبق صحفي ولا حتى بعملي، لم أفكر لحظة بالهروب من هذه "الجهّنم"، لم أعد أريد شيئاً ولا التكلم مع أحد وهكذا كان حيث انفصلت عن العالم طوال الليل.


صباحاً، عدت الى الموقع الذي تركته هارباً، أيضاً لم يكن المشهد مختلفاً، عند مدخل المرفأ استقبلتني عائلتا المفقودين علي مشيك الموظف في الاهراءات وآخر من آل علم الدين موظف في المرفأ، حال العائلتين مبكي، أخذوا يصرخون ويبكون، يتوسلون السلطات عن خبر يقين وعن أولادهم "أحياء كانوا" أو أموات، ووجهوا صرختهم عبر "النهار" لكن ما من مجيب، ورغم محاولات حثيثة قام بها نائب "حركة أمل" علي خريس لم ينجح بإقناع الاهل من ترك مدخل المرفأ، لا الوالدة المنكوبة المفترشة للطريق، والتي رفضت رفضاً قاطعاً ترك موقعها قبل معرفة مصير "ربما بحاجة إلى أكل او ماء"، بحسب ما قالت للنائب المفاوض.


وأيضاً أكملت طريقي إلى الداخل ورافقت فرق الانقاذ الى مبنى الاهراءات الضخم المدمّر، ككل المرفأ، أنظر إلى ملابس وأغراض شخصية نجا جزء منها ومن ضمنها دفتر مادة القواعد باللغة الانكليزية ربما كانت مرسلة مع الحاجيات لاحدى العائلات بحراً، وعندما اقتربت حذرني أحدهم أن أنظر تحت عندما أسير ربما كانت هناك اشلاء تحت قدمي "فانت تسير على أسطح مباني و "كونتنرات" كان يتواجد فيها ناس". وهنا انتابتني موجة هلع جديدة خصوصاً عندما مررت بالقرب من أكياس سوداء وعلمت أنها تعود لشهداء مرمية في الشمس منذ ساعات بسب عدم تجاوب المستشفيات باستقبالها وربما عدم قدرتها، فأصبت بموجة من الغضب من جديد، قبل ان اختتم حضوري بالركض بإتجاه مجموعة من الكلاب البوليسية التي حددت مكان جثة أحد الشهداء... لم أقو على البقاء ولم انتظر انتشال الجثة غادرت المكان ولن اعود.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم