الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

بائع كمّامات في طرابلس يبدأ عمله فجرًا... "في المسعى الباكر للرزق برَكة"

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
بائع كمّامات في طرابلس يبدأ عمله فجرًا... "في المسعى الباكر للرزق برَكة"
بائع كمّامات في طرابلس يبدأ عمله فجرًا... "في المسعى الباكر للرزق برَكة"
A+ A-

ليس أنور خانجي بائع الكمامات المتجوّل الوحيد في طرابلس، لكنه أوّل البائعين.

في ضوضاء الشارع، يطلق شعارات بأعلى صوت، تغلفه نبرة لا علاقة لها بسوداويّة "كورونا": "الكمامة ضرورية، 99 بالمية، صبح وضهر وعشية"، و"درهم وقاية، كمامة ضرورية، هيك قال وزير الداخلية"، أو يهتف ببساطة "كمامة بألف"!

شارع المصارف

نحن في ساعة الذروة التي تنبض في بقعة هي أيضًا استراتيجية. فالمشادّات التي دارت منذ أسابيع في شارع المصارف، بين الجيش اللبناني وثائرين، بدّلت المشهد في هذا الممرّ الشارعي الطويل الحاضن للمصارف والذي يقود إلى ساعة التل، مرورًا بالتقاطع المعروف بـ"الروكسي". مشهد يبدو أكثر مناعة منذ تصفّحت واجهات المصارف، لكن حضور "كورونا" لم يبهت. ففي هذا المكان الحيوي حيث يتجاور باعة أطعمة الشارع وبسطات القطنيات والأقراص المدمجة، والفانات التي تنقل إلى بيروت جنوباً وعكار شمالاً، حضور مستجدّ لباعة يجولون بالكمامات.

اختار أنور هذه النقطة بالذات، لأنّ المصارف التي يضمها هذا الشارع وككلّ المصارف، تشترط على داخليها وضع الكمامات، مضيفًا: "ولا بدّ من وضع الكمامة في مرافق عامة أخرى، كالسرايا، والبنك، والمالية"، وهي جميعها مجاورة له.

الكمامة التي يضعها أنور، تخفي كل ملامحه التي لا يظهر منها سوى شعره المموج الأبيض، وعينيه. أثلام صغيرة انحفرت في طرفهما، توحي بابتسامة دائمة لا يستطيع فمه المخفي الإفصاح بها. عند هدوء الملامح، تترك هذه الأثلام مؤشراً طبيعياً على عمره الذي قارب الخمسين.

ينتعل البائع "مشّاية" سوداء، وجينزًا غامقًا، يعلوه قميص أبيض. يقف على رصيف البنك العربي الذي تزنّر مؤخرًا بواجهة زرقاء للحماية. ثمّ ينقّل خطواته مراوحًا يميناً ويسارًا في مجال لا يتعدى بضعة أمتار، يجرّ سلّة بلاستيكية بلونٍ أخضر، تتّصل بمقبض طويل متحرك، وفي أسفلها دواليب صغيرة.

عادة ما تستخدم سلّته لبيع الصّحف، لكن البائع استبدل الصحف بكمامات القماش. هذه الأخيرة هي "التجارة" الأكثر تداولاً في زمن كورونا الذي يفرض عدّة مشاكل ومعها عدّة وقايات آنية قد تطول، وهي أكثر نجاحًا من بيع الصّحف المتراجعة بطبيعة الحال.

ثقافة الكمّامة

يفصّل أنور خانجي أنواع الكمامات، فيقول: "هناك النوع القطني، والقماشي المؤلف من طبقة واحدة، والمبطن المؤلف من طبقتين. ويوجد النوع الطبي الذي يجب رميه في النفايات بعد أربع ساعات، وهو موجود في الصيدليات". وعن ألوان الكمامات، يبرز لنا الأبيض، والأسود، والرصاصي. أمّا اللون التوتي فهو المفضل لدى السيدات، على حد قوله. والأكثرية باتت تتجنب الكمامة المبطنة، بسبب الاختناق في الجو الحارّ".

يسوقه الكلام إلى ما أسماه "ثقافة الوقاية"، فيروي لنا، كمن يشكو ازدراء الناس: "كثيرون استهزأوا بعملي. أحدهم قال: ارمها في النفايات، والآخر: بعها. وبسبب هذه الاستهتار الوقائي وعدم الاعتراف بوجود "كورونا" عادت الأعداد للتزايد أخيرًا".

نبتعد عنه خطوات، فنرصد مرور السيدات والشابات والعجّز. بعضهم يضع الكمامات، وآخرون يشيحون بحركة يد تعني الرفض والإبعاد. مارٌّ قال له "تجليطة" (خرافة). ولكن لديه أيضًا زبونات يعتمدونه، كجيران في موقف الفانات، لأنّه "أرخص سعرًا، ففي الصيدليات يبيعون الكمامة بـ 1500 ليرة لبنانية وهو يبيعها بألف. "حين أشتري منه، أكون قد أفدته، ووفرت 15 ألف ليرة شهرياً"، يقول جاره هلال.

حيرة الرزق والوجود

لدى وصولنا إلى مكانه المعهود، سألنا عنه بائعًا للقهوة، فعرّف جاره بـ"الشيخ أنور"، الذي استأمنه على رزقه ريثما يعود من مشوار قصير. يشاهده الطرابلسيون "الشيخ" مؤخرًا في المناسبات الاجتماعية، يتحدث في أمور الدين. قبل سنوات، كان فتح محترفاً للرسم فعُرف رسامًا. أما عن عمله الأخير، فيقول إنه كان يساعد أخاه كاتب العدل في تيسير شؤونه داخل سرايا طرابلس.

لا شك أنّ في هذه الاهتمامات المختلفة حدَّ التضاربِ أحياناً تفسيرٌ لحيرة في كسب الرزق وتأكيد الوجود لدى صاحبها، وهو أب لستة أطفال توفي أحدهم بسبب خطأ طبي.

لكن التدين هو الطاغي أخيراً عليه: "أقف منذ الـ4،30 فجرًا، بعد أدائي للأوراد الصباحية وصلاة الفجر، وأستمر في العمل حتى الثانية عشرة ظهرًا"، مضيفًا: "توجد بركة في المسعى الباكر للرزق، لأن النبي قال "بورك لأمتي في بكورها". عند الساعة الثامنة صباحًا أكون قد أنهيت تقريبًا نصف عملي" الذي ينتهي إجمالاً ببيع 100 إلى 150 كمامة يومياً.

ننظر إلى داخل السلة لنرى ما بقي من الكمامات، فنجد في كيس أخضر مربوط بعناية، أربع كعكات طرابلسية، تخرج عن أطرافها شرائح الجبن العكاوي. نسأل "ماذا عن الكعكات؟"، يجيب ضاحكًا: "اشتريتها لأطفالي. أتريدين واحدة؟".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم