السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

بكائية على عز العرب

أسامة مهران
بكائية على عز العرب
بكائية على عز العرب
A+ A-

تمخض الجبل فأنجب التباساً مجهول الهوية، وأسقط فهماً منسوبًا لضياع قضية، تمخض "اللاشيء" فأنجب تأييدًا مهذبًا مع الشغل والنفاذ"، إسقاطًا مبرمجًا على حدث لم يحدث، أخيرًا أخرج ترامب من كُم قميصه أرنبًا جبليًا مُبجلًا، وليمة مطهوة على نار هادئة، ودعوة باردة على عشاء "للأغبياء فقط".

صفقة معلبة، أم فرصة في عمر، استشعار عن بعد، أم تعاطٍ مع سبق الإصرار، بكاءٌ على أطلال ودعوة لاستنهاض "العرافة المقدسة"، أم إحساس خاص بضربة الجزاء قبل أن تقع، وبعقدة "الحلاج" بعد أن تتماهى وتصادق من يصادقها.

وطن يترجل، دعاء يرتد، وأيدٍ مرفوعة إلى السماء، لعل وعسى، الأمة كلها تراقب الإعلان الأميركي "الكريم" عن أرض ميعاد جديدة، عن نيل وفرات صناعيين، وعن حدود آمنة على وشك الاختلاط بأحلام البؤساء، وعزائم البُلهاء، ودماء الشهداء.

رغم فروق التوقيت يشتد الألم، يعزّ الانتظار، وتطول الساعات، رام الله تشتعل، والسلطة المؤقتة ترفض قرارًا نهائيًا على خط التماس، حكمًا غيابيًا من دون محكمة، وقاضيًا متعجلًا يصدر ما يراه مناسبًا بحق بريء لم يحضر، ومسيء دائم التحفز والعدوان والحضور.

الأرض الفلسطينية صارت ضِعفًا، هكذا يتطاول "كوشنر"، والعاصمة الأبدية لإسرائيل أصبحت قُدسًا كاملًا من دون نقضٍ أو استئناف، وعاصمة أبناء العم آن لها أن تفرح بما قسمه لها ترامب حين أسماها "أماكن في القدس".

لم يرتفع صوت يبارك، ولم تنهض دمعة من عين، ولم تستغث أمة بصديق، الكل مشغول في صياغة الأحرف الأولى من صفقة البائع فيها مشترٍ، والمشتري فيها بائع، أوراق مختلطة تتناثر في قاعة مكتظة بالسفراء والأتقياء والمتفرجين، بخيالات مآتة لا يحق لهم التعليق على أحكام القضاء والقدر، ولا يجوز لكائن من كان الاحتجاج ولو بصفعة على قفا محروم، أو رصاصة نحو صدر مهموم، أو ضيعة مقتطعة من أشجار التين واللوز والزيتون.

هكذا بدأ الأخوة في رشق رجال الفكر بالحجارة، ثم الانتصار لهم بمهارة، أمة لا تفيق من عدم، وعدم يتعفف أن يخاطب أمة لا تفيق بمرارة، هكذا يبدو المشهد مجنونًا، ملعونًا، محرومًا حتى من القيل والقال، من السائل والسؤال، من الممكن والمُحال.

أمة رضخت قبل أن ترضى، بصمت بالعشرة قبل أن يرتدي قوامها الممشوق حُلته المستحيلة في ليلة زفاف، هوالسقوط بعينه لمساً بالاكتاف، الضلوع في خطيئة يُزينها عرّاف، ذلك لا يعني استسلامًا إلى الأبد، أو هزيمة لا يعقبها هزيمة، أو مدينة لا ترى النور إلا في جُنُح الظلام.

الجميع يتأهب لاستقبال القرار المعجزة، الوثيقة المؤهلة لنهائيات كأس الكؤوس في الضفة وغزة، في الجولان، والخليل، والجليل الأعلى، في حيفا أو يافا أو أورشليم القدس، جميعها مؤهلة لبلوغ نهائيات لم يتم التمهيد لها، لبطولات لا تساوي وزنها ذهبًا، ولخيبة أمل لا يمكن تقديرها بثمن.

وأخيرًا تلعثمت، وأخيرًا تمخضت، الجبل يلد أرنبًا تائهاً مُبجلًا، والحمل الثقيل لا يلد سوى العار والدمار وغزوة مؤجلة من عصر "أحُد".

إنها الخزرج الذي يخرج من باطن الأوس، عبس عندما تعتدي على ذبيان، ثم تذهب القبيلتان إلى عاد وثمود كي تحكمان بين الناس للمرة الأخيرة في التاريخ.

سِفر تكوين، أو سِفر خروج، أو لقاء عند ذات الجبل، وفي اليد ذات التلمود، وعلى الرأس "طاقية الإخفاء"، هي صلاة لم يفرضها الله، و"تماحيك" لم يأتِ بها سليمان، حائط مبكى في الطريق نحو "الهيكل"، وجدران تبكي على سوء الأحوال، وغرابة الأقوال، والضرب بيد بعيدة المنال.

دير ياسين لم تعد شاهدة على العصر، وأيلول الأسود لم يطل مجددًا من عَمّان، وبحر البقر مازالت تناجي أرواح أطفالنا في "الخانكة" المصرية عملًا بعقيدة أضعف الإيمان.

تبخرت أحلامنا، وتماهت أيامنا، وانتصرت عقيدة الغاب على عقيدتنا، وفصيلة النمور الرقطاء على تيه فصائلنا، وزلال روابيهم على جمود ضواحينا، لعلها القيامة الأولى عندما تخرج من أحشاء 22% من الأرض المحدودة، أو حين تتدلى من ليالي عفرين وإدلب والجولان الموعودة، إرضوا بما قسمه ترامب لكم، وبما ارتضاه نتنياهو وبنيجانس وحلفاؤهم "الأبرياء"، لا تؤمنوا تمامًا بالقدر، بالقضاء، بالنخوة والرجولة والإباء، لمن هم أكثر دراية من مفكريكم في احتساء القهوة وتقديم خالص العزاء.

أقيموا الحدود كلها وانصرفوا، شيدوا السُرادقات ولا تترددوا، وتقبلوا بقلبٍ ملؤه الإيمان، فُضلة الإنسان من أخيه الإنسان، لا تلوموا إلا أنفسكم وبقاياها من بني أمتكم، وبني آدميتكم، وافعلوا ما يحلو لكم واشربوا نخب أوطانكم ولا تعودوا إلى كلمةٍ سواء.

لا تتوقفوا يا عرب عن الانضمام إلى قوافل المعارضة والموالاة، المواجهة والمحاباة، ولا تعودوا إلى قواعدكم سالمين إلا لو كان المكان ملبدًا بالغيوم والزهور والرياحين، ولا تتوقفوا في الطريق الموازي للضفة، ولا تعبروا نهر الأردن إلى حطين أو جينين أو القدس الشريف، لا تلوذوا بالصمت ولا بالكلام، ولا بالبين بين يا أماه، يا أبتاه، ويا أهلنا الطيبين.

تعالوا إلى ضفةٍ أخرى، مرةً أخرى إلى الأخذ والعطاء، إلى حمام لا يطير ولا يفهم في لغة السماء، إلى سوءات أعمالكم وضلالات أفعالكم وجماجم ضحاياكم، لعلكم تُكتبون مشاريع شهداء.

نجحت يا ترامب، وتفوقت على فصيلتك يا كوشنر، وفشلت فشلًا ذريعًا يا نتنياهو، فلا "الأبيض والأزرق" سوف ينقذ حزبك من الفشل الذريع، ولا صفقة القرن يمكنها إعادة سلطانك إليك.

نجحت وحدك يا ترامب وعفارم عليك يا مشهد، لأنك لم تستجِب لعيونٍ لم تنم، ولليلةٍ لم تمر، فانتقمت ونكلت والتهمت أعز ما يملكه العرب في وقت لا عز فيه للعرب.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم