الخميس - 02 أيار 2024

إعلان

مقهى بيروتي جديد يطفئ قنديله... في رثاء "دار بيسترو"

المصدر: "النهار"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
مقهى بيروتي جديد يطفئ قنديله... في رثاء "دار بيسترو"
مقهى بيروتي جديد يطفئ قنديله... في رثاء "دار بيسترو"
A+ A-

لم تعد بيروت كما كانت، ولن تبقى. يصحّ في وصف من غادرها يوماً وعاد إليها مقطعٌ من أغنية "سكروا الشوارع" لفيروز. "رجِعت على بيتي، ما لقيته لبيتي". تتماهى خطواته مع رثاء السيدة في بحثه عن مقهى "القزاز" وسينما "متروبوليس" ومبنى "سينما أوبرا" ومتجر "فيرجين"... تطول قائمة الأماكن التي اتخذناها بيوتاً وخلقنا فيها ذكرياتنا. تلك التي شهدت مظاهر ثورة مراهقتنا وقصص حبّنا، والتي بكينا فيها تخبّط مشاعرنا وبؤسنا، وأخرى بلغنا في حناياها يوم تبادلنا القبلة الأولى، وآخرها مقهى "دار بيسترو" في الحمراء.

بيروت، يا بيروت، ما عدنا نعرفك! نخشى أن نعيش فيك ما تبقّى كأندلسي- مورسكي من قرطبة، رجلاه تتشبثان بأرضٍ باتت غريبة عنه، قاسية عليه، وعيناه ترنوان إلى مدينة آلت إلى زوال فخسرها. فقبل أشهر، نعينا سينما "متروبوليس"، الحاضنة الأولى لمهرجانات الأفلام العالمية وعرّابة الأعمال المستقلّة، واليوم، نعود فننعى مقهى ومكتبة "دار"، قِبلة المثقفين. وبالنظر إلى ما خسرته بيروت في الحرب وبعدها، بدءاً من التخطيط العمراني والهندسي لساحة الشهداء، أقلّه، وصولاً إلى مسرح "التياترو الكبير" وسينما "ريفولي" ومسرح "قصر البيكاديللي"، وأسواق "السمك" و"النورية" و"سرسق" وقناطر عين المريسة الأثرية التي فكّكت في الأيام القليلة الماضية، نتساءل عمّا بقي من هوية بيروت، وعمّا بقي لنا نحن، الجيل الجديد، الذي ولد غداة حرب أهلية عبثية، وترعرع أثناء حرب مع العدو الإسرائيلي، وقضت على أحلامه أزمة إقتصادية لم تعرف لها أي حكومة حلاً.

نتساءل عمّا سيُسلب بعد اليوم من مدينتنا، وعمّا سيبقى. نتساءل عن مصير "ست الدنيا" و"سويسرا الشرق" و"لؤلؤة المتوسط" وألف كذبة وكذبة عشنا فيها، وألف اسمٍ واسمٍ أطلقناه على مدينة باتت اليوم مركّباً هجيناً لا يشبهنا ولا نشبهه ولا يشبه نفسه، تماماً كنتيجة تجربة استنساخٍ فاشلة، زعزعت ذاكرة البيروتيين الجماعية.

الحزن الذي يملأ قلوب روّاد "دار بيسترو" يتعدّى الحيّز المكاني والبعد المادي له، ففي نهاية الأمر، ليس "دار" سوى مقهى كغيره، يقدّم طعاماً لذيذاً، وعصفت به أخيراً ضبابية الأزمة الإقتصادية وجائحة كورونا. لكن، ما يجعله "مأسوفاً عليه"، هو تلك الرفوف التي اصطفّت عليها الكتب المتنوعة، والتي جعلت منه واحة ثقافية، وما يعنيه للشباب الذين رسموا على طاولاته خطوط ثورة 17 تشرين، والصديق الذي التقى بشقيق روحه والحبيب بمحبوبته فيه، فأصبحا "الأصدقاء الأحباء"، كما وصفهم "دار" عبر صفحته على فايسبوك، في رسالة وداع قاسية، إذا أردنا استخلاصها وجدناها شبيهة برسالة داليدا الأخيرة إلى حدٍّ بعيد، لما فيهما من تشابك معانٍ وتقاطعٍ لسردية الحزن والألم، فنختصر رسالة المقهى لأصدقائه برسالة المغنية العالمية التي صرخت يوماً في وجه اللبنانيين ناهيةً إياهم عن "تدمير وطنهم": "سامحوني، الحياة لم تعد تحتمل".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم