الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

الأرواح المعلّقة في الهواء

المصدر: "النهار"
راوية مطر
الأرواح المعلّقة في الهواء
الأرواح المعلّقة في الهواء
A+ A-

اتّخذت قراري، حسمت أمري، في سنّ التقاعد، سأفتح مقهى يقدِّم القهوة والاتصال بشبكة الإنترنت بسعر الكلفة، أضع فيه مكتبة مجانية وكنبات ملوّنة، يكون مقصدًا لكل من يرغب بالكتابة على جدار، فأزينه بما قد أسميه "غرافيتي أهل البيت"، أي الزوار الذين يجدون فيه بديلًا ربما عن بيوتهم الباردة.

لن أصبح كاتبة، رغم الحروف التي تسكن في مخيلتي، ورغم الشهرة المغرية، وحبي لرائحة الطابعة الكبيرة. حسمت أمري: لن أصبح كاتبة مشهورة بحجم صعلوكة تنشر صورها المجمّلة على "فايسبوك"، ويمطرها المعجبون بالتعليقات السعيدة، رغم أنها قد ترفقها بنصٍّ ركيك حزين عن جائحة مأسوية ككورونا.

لن أصبح كاتبة، لن أسمح لنفسي بأن أسقط من علو تلك السقطة المدوية، كذاك الفنان الذي غنى عن الهامة المرفوعة وطأطأ الرأس لأجل حفنة من الدولارات والصور.

سأبقى معلَّقة في الهواء في ذلك المقهى الذي قد أشعر فيه بحاجة ملحة إلى الخصوصية حينًا، وبرغبة في التكلّم مع أحدهم وقت يخلو من الزوار.

لا، لن أصبح كاتبة، فأنا أعجز عن كتابة المعلّقات، وعن استمناء إجابات على أسئلة الصحافة الصفراء، والأهم أنني أعجز عن تبني فكرة حتى الرمق الأخير، قد أبدّل رأيي بين الفينة والفينة كما أبدل أحذيتي، كما أفعل في تحديث الحالة عبر المواقع الزرقاء، أكتب الشيء ونقيضه في غضون ساعة ويبدو لي الأمر مثيرًا للغاية.

لا لن أصبح كاتبة، كي لا تتربّص بي منافستي ولا يدينني صحافي من فمي، فينكش في كتاباتي القديمة ناشدًا تناقضًا مع ما أكتبه اليوم، وكأن الفكر لا ينمو ولا يتطور، وكأني دمية جميلة بقدر سيرها على السراط المستقيم.

لا لن أصبح كاتبة، فأنا عاجزة عن التحدّث باسم الدجاجة التي تبيض ذهبًا، القضيّة الكبرى، فيما أستمتع بقراءة يوفال نوح هراري وآخرين، ولا أخشى تهمة التطبيع. إذ لا يجدي نفعًا أن تتقن دور الضحية إلى حدّ أن تنكر على عدوّك ذكاءه، فتُسقِط نفسك بنفسك ضحية لذكاء لم تحسب له حسابًا.

لا لن أصبح كاتبة، فأنا أكره الحديث بالشعارات والمسلّمات وما يجب وما ينبغي وهذا جلّ ما يفعله بعض الكتّاب في عالمي.

لا لن أصبح كاتبة معروفة لأنني وصفت عامل النظافة المسنّ الذي يكاد يلامس أنفه أسفلت الشارع، فيما أرتاد أنا فندق الخمس نجوم وأنال درع تكريم.

وبالتأكيد، فإنني وإن كنت أخشى السقوط من علو، فلن أرتكب حماقة السقوط في أرضي. لا لن أصبح، كما كنت في السابق، قارئة نهمة تصل الليل بالنهار لتكون أول من يكتب مراجعة عن هذا العمل الروائي أم ذاك. لن أصبح قارئة نهمة يتهمها كاتب مغرور بغيرة مبيّتة فقط لأنها استخدمت أدواتها النقدية بسرعة قياسية يصفها بالاستعجال غير المبرَّر.

سوف أقرأ على مهلٍ، بتأنٍ بالغ، متمنّية لو أستطيع التخلي عن عادة القراءة اللعينة تلك. سأقرأ ببلادة لكي تمرّ الترّهات بوقع أخف، أنتقل من عمل أدبي إلى آخر، أقرأ قليلًا في هذا وكثيرًا في ذاك تمامًا كما نشاهد قنوات التلفزيون. وسأنتقد... سأنتقد ذاك النتاج الخاوي من أي معنى سوى حاجة صاحبه الملحّة للظهور.

حتى الأعمال الجيدة، سأقرأها بنهم أخف كي لا أتبنى في قرارة نفسي موهبة أصحابها، فكم من كاتب خذلنا، وكم من كاتبة صفة الإبداع التي تلازمها لم تعد تليق بها، بعد أن راحت تجترّ إصدارها الأول الجميل ذاك في عناوين متتالية لا تضيف إليه شيئًا، بل وتغرقنا في التكرار الممل. سأقرأ حتى النصوص الجميلة، تلك التي تفتح لنا آفاقاً جديدة، بحيادية أكبر. وسأمرر نظري على صفحات أصحابها في العالم الأزرق بازدراء، فلمَ بحق السماء يقتطعون تلك النصوص وينشرونها بصحبة كل تلك الصور البليدة لشخصهم الموقر؟ وحتى لو صادقتهم في العالم الأزرق، فلا لن أضغط على زر الإعجاب كي لا يجعلوا مني رقمًا في نادي معجبيهم، فهم لا يجيبون سوى على تعليقات الثناء بلطف. وقد ألجأ إلى استراتيجية وقائية وهي أن أمرّن نفسي على أن أنسى أسماء الكتّاب كي لا أنحاز إليهم في نصوصهم الجديدة التي غالبًا ما تكون على قدر كبير من اللامبالاة بعد أن ثبّتوا أقدامهم في الأرض.

وأخيرًا وليس آخرًا، سأنجح في أن أبقى معلَّقة في الهواء فلا أسقط تلك السقطة المدوّية من علو، ولا السقطة الخفية في أرضي، بل أتأرجح بمرح ما بين العلو والانخفاض، أحارب السقوط في النمطيّة.

سأصبح صاحبة أجمل مقهى في هذا العالم، أقول ممنّية النفس.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم