الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

"مقهى الباب العالي" مونولوج مطرّز بحكايا ألف حيلة وحيلة

المصدر: النهار
نسرين بلوط
"مقهى الباب العالي" مونولوج مطرّز بحكايا ألف حيلة وحيلة
"مقهى الباب العالي" مونولوج مطرّز بحكايا ألف حيلة وحيلة
A+ A-

في محاولةٍ منه لإظهار باطن الفلكلور التركي، طاوياً ثناياه على قصصٍ قديمةٍ تعبرُ الشرقَ بمسامِ الأنطولوجيا الفلسفية الأدبية للمجتمع، مطعّمة بمثيولوجيا الانتماء الخيالي لعالم الأساطير والحكم، ينسج الكاتب سرقان أوزبورون حكاياه في مجموعته القصصية "مقهى الباب العالي"، متنقّلاً من عرش السلطان إلى البيوت القديمة والطرقات والمقاهي، خاتماً كلّ قصة من قصصه بحكمةٍ شعبيّة تظهرُ الحميمية البيئية للأفراد، من كبيرهم إلى صغيرهم، وتبيّن معايير المجتمع التركي منذ القدم.

نبذةٌ من حكاية "البابا مسعود" قد تختصرُ باقي الحكايات في مجموعة أوزبورون، فهو يتكلم عن رجلٍ اسمه "مسعود" يناديه الناس بـ"مسدود"، كان يعمل إسكافيّاً بسيطاً، فزاره السلطان ذات ليلةٍ متنكّراً بزيّ عابر سبيل، فلم يعرفه واستضافه في منزله، وشكا له عن تردّي أحواله في ظلّ حظّه البائس عندما تساءل السلطان عن غرابة اسمه فقال: "قبل فترة رأيت في حلمي عدداً من السبل. كان الماء يتدفق من بعضها ويسيل من بعضها الآخر، وواحد يقطر الماء قطرة قطرة. في تلك اللحظة ظهر بجانبي ملاك من نور، وقال: هذه السبل التي يتدفق منها الماء تمثل وفرة حظ سلطاننا، أما التي تسيل صنابيرها فهي نصيب الأغنياء، وهذه التي تقطر قطرات، فهي نصيبك. وغاب عن العيون. إثر هذا، تناولت عوداً، واتجهت فوراً إلى صنبور حظي. عبثت بفتحة الصنبور بواسطة العود على أمل توسيعه قليلاً... آخ لو يبست يداي، ولم أفعل هذا. في الواقع، إن العود قد انكسر، وبقي في الصنبور، وتحسرتُ على القطرات التي كانت تنزل سابقاً. ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن لم استفتح. ولأني أضرب هذا السندان الفارغ أمامي، وأقول: "مسدود، مسدود" أطلق عليّ الناس هذا الإسم، وصاروا ينادوني "البابا مسدود".

حاول السلطان بعد أن تقصّى لاحقاً عن أحوال مسدود أن يمدّ إليه يد المساعدة في شهر رمضان، فأمر طباخ القصر بأن يحضر صينية بقلاوة، وأن يضع تحت كل قطعة ليرة ذهبية. وأرسل الصينية إلى بيت "البابا مسدود" على أنها هدية إفطار من أحد الأغنياء، ولكنّ مسدود باعها معلّلاً النفس بأنّه من الخير له أن يفعل. فحزن السلطان لهذا وأمر بإعداد ديك رومي محشي، وأن يُملأ داخله بالذهب، ويُرسل إلى "البابا مسدود"، فترصّد له الزبون الذي اشترى منه البقلاوة وأقنعه بأن يبيع له الديك الرومي. فنفد صبر السلطان وأمر البابا مسدود أن يحضر مجرفة ويملأها ذهباً من صندوقه، ولكنّ مسدود خرج فارغ اليدين كما حضر، إذ اكتشف أنّه كان يمسك المجرفة بالمقلوب. حينئذ قال السلطان بأسفٍ تلك العبارة التاريخية التي حُفرت في البال عبر الأجيال:

- ماذا يفعل محمود عندما لا يعطي المعبود!

وفي حكايته "الشاعر زيّا" تهكّمٌ واضح على مهنة الشِّعر التي وصفها بقوله: "الشِّعر لا يشبع البطن"، حيث يخبرنا عن شاعرٍ اسمه زيّا بيك من أضنه، وهو أحد أدباء المرحلة الأخيرة للفترة العثمانية، حين حضر إلى اسطنبول من أجل طباعة ملزمتين من أشعاره، حيث وجد صدّاً رقيقاً وبعض الأحيان جافّاً من دور النشر، وبعد تجواله وكدّه الحثيثين، شعر بجوعٍ عميق يلجُ أعماقه ويلحّ على حواسه، فدخل إلى محل بائع أكباد، وعندما انتهى من تناول طعامه وحضر النادل لقبض الحساب تذرّع بأنّه يريد أن يرسل مَن يأتيه بصديقه المقيم في فندقٍ قريب، ليوافيه إلى المطعم لأنّه تأخّر، فكتب له على ورقةٍ بيت الشعر التالي: "شقّ الطبّاخ كبدي من وسطه، تعالَ يا قطعة كبدي، وادفع ثمن الكبدِ".¬

سرقان أوزبورون كاتبٌ مونولجيٌّ ساخر، يسخّر طبيعة بيئته وغرابتها وقصصها في تقديم حكايا "يسوّقها" بروح الطرافة والبدع، مخترقاً أصول الكتابة الفنيّة الأدبية بأسلوبٍ بدائيٍّ يدمّر الترتيب الجيد للحبكة، ويدخل البلبلة لمخيّلة المتلقي التي تنتظر حدثاً استثنائيّاً على نسق قصص ألف ليلة وليلة، ولكنّه يلجأ للحيلة في تصوير المواقف المضحكة والمبكية، مختلساً عقيدة كتّاب الأساطير والحكايا الخيالية، تحت ستار صياغة جديدة لا تشكّل تقديرات هامّة في عالم الرواية والقصص، فتبدو كالقيثارة التي تُرخى حيناً وتُشدّ في حينٍ آخر، دون أن تتآلف وتتناغم أوتارها.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم