الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

انتفاضة طرابلس... غضب ساحة النور يعيد الألق

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
انتفاضة طرابلس... غضب ساحة النور يعيد الألق
انتفاضة طرابلس... غضب ساحة النور يعيد الألق
A+ A-

تنضم طرابلس إلى "أسبوع الغضب" لتعاكس رهان السلطة على إحباط الثوار. فبعدما لمس هؤلاء بما لا يحتمل الشك، استمرار الطّبقة السيّاسيّة في تجاهلها الممنهج لصرخات الشّعب ولامبالاتها حيال الارتفاع الفاحش لأسعار السلع وصرف الدولار الذي وصل إلى 2500 ليرة لبنانية، فضلًا عن التقتير في الإمداد الكهربائي ووقود التدفئة والتنقل، لم يجد الثّوار بدًا من مواصلة احتجاجاتهم في الشّارع الّذي يعيد استقطابه لشعب غاضب ضدّ انعزالية الطبقة الحاكمة.

المشهديّة الشّارعيّة

يبدو اليوم أنّ أعياد الشتاء والعواصف وتزامنها مع الاستيلاد الحكوميّ، حلّت بمثابة هدنة مؤقّتة فتح الثّوار هلاليها ثمّ أغلقوهما اليوم، مع يقينهم بأنّ الصبر عقيم، فاستبدلوه في طرابلس بشعار "ثورة بلا حدود" حمل المتظاهرون لافتاته التي خطوها بألوان العلم اللبناني، في مسيرة هي الأطول منذ 17 تشرين، جابت طيلة ثلاث ساعات كلّ أحياء المدينة، انطلاقًا من ساحة النّور مرورًا بالتل وعزمي والمئتين وبولفار رياض الصلح.

المشهديّة الشّارعيّة تستعيد نبضها الأوّل على محطات التلفزة، الّتي عادت لتقسيم شاشاتها إلى عدّة مربّعات ترصد بالتوازي حراكات المناطق. المشترك بين كلّ هذه الشّاشات، هو أنّ لطرابلس حيزًا دائماً مخصصاً للمدينة "الثورجية"، حيث تداعى أكثرمن 3000 مواطن مع أغلبية شبابية طاغية من الجامعة اللبنانية، يرددون النشيد الوطني اللبناني ويحملون بين أيديهم أدوات التظاهر: أعلام لبنان، لافتات مندّدة بالسرقات والفساد والتجويع، أوانٍ مطبخية وملاعق تتنقل رنّاتها بين الشرايين المروريّة التي تنتفخ أكثر فأكثر بالمنضمّين على طول المسيرة، تضاف إليهم جوقات من الهتافات المشجّعة التي تنهمر على الحراكيين من شرفات المنازل.

طلاب "نازلين عالثورة"

من جديد، يرفع طلاب طرابلس النبض ويرفعون مستوى ولهجة الاحتجاجات، والآخرون ينضمون إليهم. من جديد، يقدّم الطلاّب النّموذج، ويؤكّدون أنّ قيامة الانتفاضة واستمراريتها تجري على عاتقهم أولاً. فأثناء تغطيتنا المباشرة، عادت بنا مسيرة "ثورة بلا حدود" إلى المسيرة الطلابية الكبيرة الّتي أحيتها طرابلس في 9 تشرين الثاني، ضمن ما قد يصحّ تسميته بـ"جولة الانتفاضة الأولى". فالمظهر لم يختلف ولكن الدّروس مذاك تراكمت، وبيت القصيد يُقرأ في لاجدوى إعطاء مهل لهذه الطّبقة أو اعتماد السلمية "المهذّبة" في الثورة ضدّها. فخلال تنقّلنا بين المحتجّين، ينقل إلينا الشّباب بأنّ لسان حالهم هو غليان جديد ضدّ غلاء في تصاعد مطّرد، وخسائر مدوية في الأعمال، وأنّ لا أفق أمام هؤلاء الشّباب سوى في ثورة شرسة ضدّ كل هذا الهوان الذي تمارسه السلطة، الأمر الّذي يصفه لنا الناشط الاجتماعي رامي فنج الذي انطلق في المسيرة مع رفاقه بـ"أجساد ميّتة قيّمة على شعب يموت من الجوع".

انطلاقة الانتفاضة الشعبية

الهموم المعيشية الّتي كانت المحفز الأساس لانطلاقة الانتفاضة الشعبية، تتعانق مع غضب طالبيّ جديد. ففي المفهوم الطّالبي، الّذي يتّخذ دومًا الثورة الطّالبية في فرنسا مرجعًا ملهمًا له، لم يصمد العهد الديغولي وحكومة جورج بومبيدو أكثر من ثمانية أيام أمام الطلاب الذين انضم اليهم العمال والفقراء، ونجحت احتجاجاتهم في حل البرلمان الفرنسي.  أما في لبنان، تحفز الغضب ضبابيّة سميكة تكتنف التّشكيلة الحكومية التي يتولاها منذ زهاء شهر، رئيس مكلّف لا يسرّب للبنانيين أيّة مؤشرات عن ولادتها.

العصيان الشارعي

إن الخذلان الراهن راكم تغيرًا أساسيًا وبنّاءً في المفاهيم الثورية. ففي حين كان يخشى من فعل قطع الطريق، أو يوحى بأنّ من يقطع الطريق في طرابلس هو من "قطاع الطرق"، الخارجين عن الضوابط القانونية أو المفتقرين للطموح، تختلف المشهدية اليوم في مدخل طرابلس الجنوبي عند البحصاص، حيث وقف عشرات الطلاب الجامعيين منذ ساعات الفجر الأولى، يعبرون عن عصيانهم. تجدر أيضًا الملاحظة بأن الشابات يشكلن نصف المجموعة التي تقطع الطريق، ويعبرن عن حرصهن في إظهار هويتهن الجامعية التي لا تتناقض، بل ربما تتكامل مع العصيان الشارعي وتأتي مساندة لها. الأمر الذي أكدته لنا صفاء ب. (20 سنة) من كلية الفنون الجميلة الّتي تنضم إلى صديقاتها في قطع الطّرقات بعدما "طفح الكيل وبلشنا نجوع" على حدّ قولها.

ظروف التدريس

والأساتذة في الجامعة اللبنانية يساندون طلابهم، إما حضورًا شبه يومي أو من خلال مشاركتهم في تنظيم وإدارة حوارات التثقيف السياسي في الخيم. هذه الوجوه ألفتها يوميات الساحة. فمن غير الغريب أن تنضم د.رلى عوض إلى المسيرة منذ ساحة النور، أو تهتف  د. هند الصوفي لطالبتها التي التقتها في شارع عزمي، أو يكون د. باسم بخاش من أول الحاضرين في "ثورة بلا حدود"، هذه العبارات التي خطت على لافتات وزينت بالأرزة، تطوّع البروفيسور وليد الأيوبي بنقلها في سيارته الـ bmw X5 وأخذ بتوزيعها على طلابه وعلى المتظاهرين. وتتعدى هذه المساندة حدود الساحات فتنسحب على ظروف التدريس، إذ وردنا من طلاب في كلية العلوم الاقتصاديّة، توجّه الإدارة إلى إلغاء إلزاميّة الامضاء لحضور الحصص التدريسيّة الّتي يحرم منها الطلاب تلقائيًا في حال تخلف عن 20% منها، قرار وشيك متمخض عن حساسية الأوضاع الاقتصادية واضطرار الطلاب إلى التمسك بالتزاماتهم العملية. كما يلجأ الأساتذة إلى تكييف حضورهم بالتلاؤم مع حضور الطلاب وليس العكس.

ساحة التكافل

غضب طرابلس أعاد ساحة النور إلى ألقها الأولي. الموسيقى الحماسية تصدح في الأرجاء، العبارات ضد "الطبقية"، و"الطائفية"، و"المذهبية"، و"الاستعباد" تمهرها الآلاف المحتشدة في ساحة النور بهتاف "ثورة..!"، وكأنّ المشهد هو نفسه مقتبس من الخريف الأخير، مع فارق الملابس الشتوية، ومشروبات الشتاء الساخنة المعروفة في طرابلس، من سحلب، وحبايب، يبيعها المتجولون في أوانيهم النحاسية، وكذلك تضاف عربات حلويات الشتاء الطرابلسية، كحلاوة الشميسة والهيطلية يزينها الباعة بقطع الموز وزهر الليمون.

بلورة مبادرات

علاوة على هذا التحول البصري، حولت الضائقة المادية ساحة النور إلى مجال مساندة اجتماعية تستفيد منه الطبقات الكادحة، فاستجدت خيمة "وجبات الخير" التي توزع حوالي ألفي وجبة طعام يومياً ما عدا السبت والأحد. ويستمرّ "مطبخ الثورة" بتأمين وجبات الترويقة والغداء. إلّا أنّ لهذا المطبخ تخصّصيّة يشي بها اسمه، إذ تقول القيّمة عليه "ليندا برغل" إنّها تهتمّ مؤخّرًا بدعم الثّوار الّذين يقطعون الطرقات بسندويشات في الصباح والمساء، وتضيف بهتاف حماسي انتقل إلى مجموعة الشباب الذين يحيطونها، بأنّ الثوار تناولوا الكرواسان والمرتديلا صباحًا، وجهّزت لهم سندويشات المقانق والمتبل على الغداء. التّكافل عينه، ينطوي موضوعاتيًا على الاهتمامات المهيمنة في خيم التثقيف، حيث يقول لنا الناشط عبد الكريم قزاز (29 سنة) الذي يواظب على حضور حلقات "ساحة ومساحة" منذ اليوم الأول، بأنّ الخيمة تركّز مؤخّرا على بثّ ثقافة التّكافل ومساعدة الثوار على بلورة مبادرات تساهم في تخطي العثرات الاقتصادية وتدعم الناس الأكثر حاجة.

جولة ما بعد رأس السّنة تخطوها طرابلس أسوة بباقي مناطق لبنان، من خلال طاقة طالبيّة مجدّدة تغيّر عنوان المرحلة من "ماذا ينتظر الشارع من الطبقة السياسية" إلى "ماذا يتنظر الشارع من طلّابه؟" الذين يجدّدون غليانهم ضدّ طبقة سياسية وقحة في لامبالاتها.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم