الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

سنة 2020: زمن "الإنتفاضة المستدامة"

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
سنة 2020: زمن "الإنتفاضة المستدامة"
سنة 2020: زمن "الإنتفاضة المستدامة"
A+ A-

تدخل الإنتفاضة اللبنانية سنة 2020 حاملة معها نحو 77 يومًا من النضال المتواصل. على ابواب السنة الجديدة، يُطرح على الإنتفاضة أو هي تطرح على نفسها، العديد من الأسئلة الملحّة، لعل أبرزها ثلاثة: ماذا سيكون موقفها من تأليف حكومة جديدة او من عدم تأليفها؟ كيف ستنظم نفسها لمواجهة التحديات المتزايدة؟ كيف تنظر الى نفسها بعد مرور شهرين ونصف الشهر على إنطلاقتها، وهل ستكمل على النمط نفسه أم ستعدّل بمسارها؟

لا يطمح هذا النص الى تقديم إجابات قاطعة أو مفصّلة عن هذه الأسئلة، بل ربما قد يطرح المزيد من الأسئلة أكثر مما سيقدّم إجابات. ليس فقط بسبب ضيق المساحة لمقاربة مواضيع بهذا التشعّب. بل أساسًا لأن الإجابة الفعلية عن هذه الأسئلة يحتكرها الصراع نفسه من جهة، ولارتباط الأجوبة عن سؤال، بالإجوبة عن السؤالين الآخرين من جهة ثانية.

سأبدأ بالسؤال الثالث لأنه الأشمل، ولأنه يضع إطارًا عامًا يسمح بمقاربة السؤالين الآخرين بطريقة أفضل.

1- الإنتفاضة والوقت

انطلقت الإنتفاضة في وقت كان البلد يمر بمرحلة "ضيق الوقت": كانت مؤسسات التصنيف الإئتماني قد أعطت الحكومة ستة أشهر للقيام بما يلزم لتفادي الإنهيار وإلاّ جرى خفض تصنيف لبنان الى درجة تضرب الثقة به وبإقتصاده.

وكان المسؤولون يماطلون في إتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسين الوضع، هم الذين امتهنوا الاستخفاف بالوقت على حساب مصالح الوطن والناس. فماذا تعدّ ستة أشهر بالنسبة إلى الذين أضاعوا سنتين ونصف سنة قبل ان ينتخبوا رئيسًا وأضعاف الستة أشهر في تأليف الحكومات؟

الإنتفاضة كانت في جانب منها سباقًا مع الوقت لتفادي الإنهيار في ظل تقاعس المسؤولين عن القيام بواجباتهم.

الذين قاموا بالإنتفاضة هم الشباب، وللشباب علاقة خاصة بالوقت، وهي علاقة ملتبسة الى حدّ ما. فمن ناحية، الوقت يدهم الشباب الذين عليهم ان يتابعوا دراستهم وربما تخصّصهم، والأهم ان يجدوا عملاً يعتاشون منه.

من ناحية ثانية، الشباب "معهم كل الوقت" لتنظيم نضالاتهم، نظرًا إلى أنهم في اول العمر. لا شكّ ان هذا الإلتباس في العلاقة بالوقت والمرتبط بعمر الشباب من جهة، و"واجباتهم" العلمية والمهنية من جهة أخرى، سيطبع مسار الإنتفاضة.

فإذا طغى عامل "الإستعجال"، فستصيب الإنكسافات والصعوبات المتراكمة مقتلاً من الإنتفاضة، وسينسحب الشباب "كافرين" بالعيش في هذا الوطن. إما إذا طغى عامل "الحياة أمامنا"، فسيعرف الشباب كيف يوفّقون بين الموجبات الشخصية ومستلزمات الإنتفاضة وإستمرارتها. وهذا ما هو مطلوب، إذ ان كل المؤشرات تدل على ان الإنتفاضة تحتاج الى الكثير من الوقت لتحقيق أهدافها، كما ان امامها الكثير من الصعوبات عليها تخطّيها.

فالإنهيار المالي والإقتصادي مستمر بوتيرة تصاعدية، وإعادة تركيب السلطة مسألة معقّدة لأسباب داخلية وخارجية، سياسيّة وعسكريّة.

على الإنتفاضة ان تعي تمامًا هذا الواقع وان تستخلص انه لا بدّ للإنتفاضة ان تكون "مستدامة" وليست مجرد ضغوط في مرحلة محدّدة.

عبارة "مستدامة" تعني أمرين، تمامًا كما مصطلح "التنمية المستدامة". أولاً يجب النظر اليها كونها تحركًا على المدى الطويل. ثانيًا ان ممارساتها الآنية او المرحلية يجب ان تخدم استدامتها وينظر اليها كمراحل في مسار أطول.

الاستدامة تفترض تنوّعًا في أساليب العمل والتحرّك، يتجاوز الإعتماد على الضغط في الشوارع والساحات، الى العمل من داخل المؤسسات والتنظيمات، لتوظيف مكتسبات الإنتفاضة وقيمها في الإدارة والعلاقات بين اللبنانيين، تمامًا كما حصل في انتخابات نقابة المحامين.

في هذا السياق اقترح التوقّف عن عدّ أيام الإنتفاضة لأن ذلك سيصبح مع الوقت عامل ضغط على المنتفضين.

2- صبغة "حكومة اختصاصيين مستقلين"

عُيِّر الرئيس المكلّف لأنه يصبغ شعره. الخوف كل الخوف ان يؤلف حكومة تابعة لبعض أطراف السلطة لكن بصبغة "حكومة اختصاصيين مستقلين".

المهم موقف الإنتفاضة من الحكومة، إذا أُلِّفت، وعلى أي أساس يجب إتخاذ هذا الموقف.

الإنتفاضة تطالب بحكومة إختصاصيين مستقلين، برئيسها وأعضائها. أقل ما يمكن ان يقال عن موقف الإنتفاضة من تكليف دياب انه متردّد وغير واضح ويغلب عليه القبول بالأمر الواقع، مما فتح المجال امام الاعتراضات المذهبية لتملأ الفراغ.

الموقف من التأليف يجب ان يكون أكثر وضوحًا ومن الأفضل إعلانه مسبقًا أي قبل التأليف على أساس معايير توضح ما يعنيه المنتفضون بمصطلح "إختصاصيين مستقلين".

عُرٍفت حكومات الإختصاصيين في العالم، بحكومات "تكنوقراطية" وهي "نظام مقترح للحكم يتم فيه إختيار صانعي القرار على أساس خبرتهم في مجال معيّن خاصة في ما يتعلّق بالمعرفة العلميّة والتقنيّة" (ويكيبيديا). "وقد تمّ إستخدام مصطلح تكنوقراط في الأصل للدفاع عن تطبيق المنهج العلمي في حل المشكلات الإجتماعيّة".

وقد جرى انتقاد حكومة "التكنوقراط" على انها تنحاز الى وجهات نظر الخبراء التقنيين، بينما تهمّش آراء ووجهات نظر الجمهور العام وممثليه في البرلمان.

فكرة الإستعانة بالتكنوقراط عرفتها الصناعة قبل السياسة، فمع انتشار شركات المساهمة، لم يعد صاحب الشركة، الذي أصبح مجموعة مساهمين، هو من يدير المؤسسة، بل جرى تعيين شخص متخصص لتولي مسؤولية الإدارة.

هذا التدبير لم يكن فقط بسبب تعدّد المالكين، بل بغية المزيد من "الفعاليّة" و"الكفاية" التي يعجز عن تأمينها صاحب الشركة المهجوس فقط بالربحية السريعة والذي يتأثر أيضًا باعتبارات إجتماعيّة أو سياسيّة تعيق انتاجية العمل. وكذلك بغية تأمين "الإستمراريّة" في عمل الشركة في سياق تخطيط علمي.

في لبنان، طرح "حزب القوات اللبنانية" حكومة التكنوقراط، في السياق التاريخي. ويمكن تفسير ذلك إمّا حرصًا على الفعاليّة وتحييدًا للمعوقات السياسيّة، كما تقول "القوات"، واما كمحاولة للحدّ من نفوذ "الأكثرية النيابيّة"، كما يقول خصومها.

الإنتفاضة رفعت أيضًا مطلب "حكومة إختصاصيين" لكنها ركّزت على ضرورة ان يكونوا "مستقلين". واستقلاليّة "الإختصاصيين" فائقة الأهميّة لسببين على الأقل. أولاً، لأن الإختصاص ولا سيما في مجالات السياسة والإقتصاد والإجتماع والقانون، ينحاز بشكل عام الى مقاربات ونظريات معينة دون الأخرى، ولا يوجد في هذه العلوم مقاربة او نظرية واحدة يمكن وصفها بـ"المقاربة العلمية". ثانيًا، لأن أحزاب السلطة هي التي ستختار الإختصاصيين، ولا شيء يضمن ان يكونوا مستقلين، على العكس. وهذا ما تدّل عليه المشاورات اليوم لتأليف الحكومة الذي يسمّونها "حكومة إختصاصيين".

أعتقد ان على مفهوم "الإختصاص المستقل" ان يستند بالنسبة إلى الإنتفاضة الى أربعة معايير:

المعيار الأول ان يكون الإختصاص متناسبًا مع الوزارة ومهامها، وليس كما جرى مع الرئيس المكلّف، غير الإختصاصي لا بالسياسة ولا بالإقتصاد ولا بالقانون ولا بالإجتماع. المعيار الثاني ان يكون الإختصاصي مستقلاً عن أحزاب السلطة بمعنى الإنتماء أو الولاء. ثالثًا، ان يكون الإختصاصي مستقلاً عن الخارج. رابعًا ان يكون الإختصاصي صاحب رأي في إختصاصه، مخالف لا بل مناقض للسياسات المعتمدة من قبل السلطة في كل المجالات- هذه السياسات التي تعارضها الإنتفاضة – وعلى هذا الرأي ان يكون معلنًا أو معروفًا.

موقف الإنتفاضة يجب ان يستند الى توفّر المعايير الأربعة بنسب مقبولة. السلطة تحاول ان تؤلّف حكومة "إختصاصيين مستقلين" من منطلقات المساهمين في الشركات الإقتصاديّة، أي ان يبقى أطراف السلطة "مالكين" للدولة وأن يأتوا بإختصاصيين لادارتها بشكل يوقف الإنهيار ويؤمن استمرارية الدولة، أي إستمرارية ملكيتهم حتى ولو خصخصوها على طريقتهم طبعاً.

قلت ان الضغط على الرئيس المكلّف يجب ان يسبق التأليف وعلى أساس المعايير التي عرضتها أعلاه. ليس فقط لأن الضغط بعد ذلك سيكون أصعب، بل لانه سيكون أيضا أكثر كلفة على المستوى الإقتصادي والإجتماعي. وهذا ما على الإنتفاضة مراعاته بشكل دقيق. إذا عليها ان توازن، من حيث الفائدة الإجتماعيّة والإقتصاديّة، بين الضغط لرفض صيغة التأليف، او الضغط على الحكومة المؤلفة من أجل مطالب إجتماعيّة – إقتصاديّة محدّدة. على ان يبقى الهدف الأسمى، هو إعادة تركيب السلطة عبر انتخابات مبكرة وليس المراهنة على التغيير من خلال الحكومة أيا كان شكلها.

3- إشكاليّة التنظيم:

طُرحت مشكلة التنظيم على أثر قطع الطرق، وغياب الموقف الواضح من تكليف حسان دياب، والبلبلة في كيفية التعاطي مع الاحتجاجات المذهبية المتصاعدة.

لا شك ان الحاجة الى التنظيم ستطرح بحدّة أكبر عندما سيكون على الإنتفاضة إتخاذ موقف من تركيبة الحكومة المنوي تأليفها، وكذلك إذا قرّرت الإنتفاضة تحويل حركتها الى "إنتفاضة مستدامة" تطال التغيير من داخل المؤسسات، كما اقترحت أعلاه.

يبدو لي ان تردّد المنتفضين حيال مسألة التنظيم يعود الى اربع "حساسيات" على الأقل.

أولاً عدم الثقة بين الجمعيات التي قادت حراك 2015 وفشلها آنذاك في التنسيق. ثانياً عدم الثقة بين الجيل الشاب وهذه الجمعيات، الذي يتّخذ أحياناً شكل الصراع بين الأجيال. ثالثا صعوبة تنظيم الكتلة الكبرى في الإنتفاضة التي يمثلها الشباب. رابعاً التنوّع المناطقي والفكري والسياسي داخل الإنتفاضة.

على أهميّة هذه "الحساسيات" أو العقبات، لا يمكن تخطّيها إلاّ من خلال التنسيق وهي مسؤولية جميع الأطراف المشاركين.

الشكل التنظيمي الأنسب لهذا التنوّع، هو "الشبكات" التي أثبتت جدواها في إنتفاضات أخرى حول العالم، وهو شكل تنظيمي أفقي، مرن، غير ملزم، يحافظ الى حدّ بعيد على إستقلاليّة العناصر المكوّنة له.

أني أقترح ان يكون لـ"شبكة" الإنتفاضة ثلاث وظائف متكاملة: التنسيق لإتخاذ موقف من القضايا المطروحة من مثل تأليف حكومة أو إقرار سياسات إقتصاديّة إجتماعيّة؛ التنسيق في حال قرّرت "الشبكة" تحويل الإنتفاضة الى عملية مستدامة تطال تأليف معارضات داخل المؤسسات والمنظمات والهيئات من أجل تطويرها؛ التنسيق بهدف تحقيق المطلب الأهم للإنتفاضة، الا وهو إعادة تكوين السلطة، أكان ذلك عبر إنتخاب مبكرة ام من خلال الإنتخابات العادية المقبلة.

القدرة على القيام بهذه الوظائف الثلاث تفترض اعطاء أهمية لثلاثة أنواع من التشكيلات: تشكيلات مهنيّة، تشكيلات مناطقيّة وتشكيلات مركزيّة تنسّق في ما بين التشكيلات.

وحده الصراع، الذي تقوده الإرادة والوعي والشجاعة، كفيل ببلورة الصيغة المثلى لهذه "الشبكة".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم