الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

"سترات صفر" بنسخة لبنانيّة؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
"سترات صفر" بنسخة لبنانيّة؟
"سترات صفر" بنسخة لبنانيّة؟
A+ A-

لا شكّ في أنّ زيادة الضرائب أو البحث في زيادتها هما السبب المباشر لانطلاق الاحتجاجات في باريس وبيروت. في 17 تشرين الثاني 2018، نزل مئات الآلاف من الفرنسيّين إلى الشوارع اعتراضاً على مشروع لفرض رسوم على المحروقات ابتداء من كانون الثاني 2019 بقيمة تراوحت بين 0.03 و 0.06 يورو على ليتر السوبر والديزل. في لبنان، أشعل النقاش حول فرض ضريبة 6 دولارات شهريّاً على تطبيق "واتساب" التظاهر الذي اتّخذ طابعاً تصاعديّاً.

حين ترضخ الحكومات

كانت أعداد المتظاهرين الفرنسيّين تتّخذ إجمالاً مساراً تنازليّاً ولو بطيئاً من سبت لآخر، ففي السبت الأوّل وصل العدد إلى حوالي 300 ألف ثمّ استقرّ عند ما يزيد قليلاً على 100 ألف في كانون الأوّل 2018 قبل أن يعاود الانخفاض أكثر لاحقاً. بالمقابل، ذكرت وكالة "رويترز" أنّ أعداد المتظاهرين وصلت إلى مليون و مئتي ألف في لبنان أمس السبت. وعلى الرغم من دلالة هذا الرقم مع التفاوت الكبير في الحجم السكّانيّ بين كلا البلدين، قد يكون تقسيم المتظاهرين الفرنسيّين تحرّكاتهم على أيّام السبت إجمالاً أفقد مظاهراتهم زخمها إضافة إلى عوامل أخرى.

في 10 كانون الأوّل 2018، وجّه الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون كلمة متلفزة إلى الفرنسيّين أعلن فيها التراجع عن فرض الضريبة على الوقود والتي صُنّفت من ضمن الضرائب البيئيّة، كما وعد برفع الحدّ الأدنى للأجور وإلغاء الضريبة على ساعات العمل الإضافيّة وغيرها من الضرائب. لكنّ هذه الإجراءات لم ترضِ "السترات الصفر" التي واصلت تحرّكها. والأمر نفسه ينطبق على المظاهرات اللبنانيّة التي ازدادت حدّة بعد إعلان الحكومة اللبنانيّة تراجعها عن فرض الضريبة. يرجع ذلك إلى أنّ المحتجّين يستغلّون تراجع الحكومة للتقدّم بالمزيد من المطالب كما إلى الحالة العاطفيّة التي تؤجّج مشاعرهم أكثر من الانشغال بالحسابات الجديدة التي تقترحها الحكومات.

"إسقاط النظام" والديموقراطيّة التوافقيّة

في فرنسا، تحوّلت الدعوة من إلغاء الضرائب إلى إسقاط ماكرون. وفي لبنان دعا المتظاهرون إلى إسقاط الحكومة ثمّ "كامل الطبقة السياسيّة" (بغضّ النظر عن مدى دقّة مصطلح "الطبقة السياسيّة") بما فيها الرؤساء الثلاثة. أتى ذلك تحت الشعارين الشهيرين "كلّن يعني كلّن" و "الشعب يريد إسقاط النظام". وتشترك الاحتجاجات الفرنسيّة واللبنانيّة بكونها تفتقر لقيادة واضحة. تحوّلت "السترات الصفر" إلى مجموعات متفرّقة مع مرور الوقت، بسبب غياب القيادة وتكبير حجم المطالب وتحقق أهداف الجزء الأكبر من الحراك. وتتوجّه أنظار المراقبين في لبنان إلى مدى قدرة حركة الاحتجاجات اللبنانيّة على الاستمرار في حال عجزت عن إنتاج قيادات. في هذه الأثناء، تبقى لامركزيّة التجمّعات في لبنان علامة فارقة في المظاهرات.

تسمح التقاليد السياسيّة والتجانس الاجتماعيّ بتحمّل المسؤولين الفرنسيّين مسؤوليّاتهم سريعاً، بعكس الحالة اللبنانيّة. فالديموقراطيّة التوافقيّة اللبنانيّة التي تتجسّد عادة في ائتلافات سياسيّة-طائفيّة حكوميّة، تترك ثغرة كبيرة على مستوى تحديد المسؤوليّات التي تنتهي بأن يتمّ تقاذفها من طرف إلى آخر عند كلّ أزمة. سابقاً، كانت محاولة اللبنانيّين توجيه الاتّهام إلى جميع المسؤولين تصطدم بحواجز طائفيّة. تبدو المحاولات هذه المرّة أكثر نجاحاً مع رفع لافتات وإطلاق هتافات لا تستثني أحداً من رؤساء الأحزاب اللبنانيّة. وربّما أتى انتشار المظاهرات الحزبيّة إلى المناطق ذات الغالبيّة الشيعيّة والتي كانت عصيّة على "الاختراق الاحتجاجيّ" أحد أبرز الأدلّة على ذلك. ولعلّه أيضاً أبرز عامل يساهم في "نجاح" هذه الاحتجاجات حتى الآن.

مواجهة "النخب"

لا تمثّل زيادة الضرائب جوهر المشكلة في فرنسا ولبنان. في أوروبّا عموماً وفرنسا خصوصاً، ثمّة مشكلة للطبقات الفقيرة والوسطى مع "النخب" التي استفادت مادّيّاً من العولمة. بذلك، توسّع الشرخ الاجتماعيّ بين المدن الميتروبوليّة والأطراف. على سبيل المثال، إنّ الفرنسيّين الذين يعيشون في البلدات والمدن البعيدة، من بينهم صغار الصناعيّين، كانوا الأكثر تأثّراً بالضريبة بما أنّهم الأكثر اضطراراً إلى التنقّل ونقل بضائعهم لمسافات أطول. لكنّ البعد بين المركز والأطراف لم يكن جغرافيّاً وحسب بل اجتماعيّاً ونفسيّاً بالدرجة الأولى.

فحركة انتقال الرساميل إلى الدول ذات اليد العاملة الأقلّ كلفة والتي شجّعتها العولمة، تركت الصناعات الصغيرة في الدول الغربيّة ومنها فرنسا، تواجه مصيرها المحتوم. وخلقت أدوات العولمة، ومنها "منظّمة التجارة الدوليّة"، غياباً كبيراً في التوازن بين الاقتصادات المحلّيّة والدوليّة الأمر الذي أدى إلى تفاوت طبقيّ كبير في الدول الغربيّة. بذلك، أدّى تركيز "النخب" على البحث عن الاستثمارات الخارجيّة إلى الإضرار باقتصاداتها المحلّيّة فيما كان المطلوب بحسب أحد مهندسي اقتصاد ما بعد الحرب العالميّة الأولى، جون مينارد كينز، تعزيز الاقتصاد الداخليّ أوّلاً كأساس لتمكين الاقتصاد العالميّ.

"فساد الطبقة السياسيّة"

في لبنان، تبدو الأزمة معبّرة عن نفسها بطرق مشابهة وإن غير متطابقة تماماً. تعبير "النخب" غير متداول كثيراً في الإعلام وبين المتظاهرين، لكنّ مهاجمة "الطبقة السياسيّة" (بغضّ النظر عن دقّة المصطلح) تلقى رواجاً كبيراً على الصعيد الجماهيريّ والإعلاميّ. المشكلة التي يركّز عليها المتظاهرون في لبنان هي "الفساد" و "السرقة" لا في طريقة إدارة الحكّام لمفاعيل العولمة علماً أنّ لبنان بحجمه الاقتصاديّ كان بعيداً إلى حدّ ما عن آثارها السلبيّة بالشكل الذي بانت عليه في الغرب. لكن من ناحية أخرى، لم يستطع هذا الاقتصاد أن يتلافى تراجع حجم الاستثمارات والتحويلات الرأسماليّة إلى لبنان بعد اندلاع الثورات في العالم العربيّ بدءاً من سنة 2011. ولئن كان الفرنسيّون أكثر ثقة عموماً بالقضاء والهيئات الرقابيّة فإنّ الأمر مختلف جدّاً في لبنان.

سهّلت تركيبة ما بعد الحرب استشراء الفساد وتحويله إلى عنصر من عناصر الحكم وقد استطاعت "الأوليغارشيّة" السياسيّة-الطائفيّة إدامة سلطتها المركزيّة عبر تعزيز قواعدها الشعبيّة داخل طوائفها. برز ذلك خصوصاً في تحويل جزء من الموارد العامّة لكسب الولاءات إضافة إلى انخراطها في شبكة مصالح اقتصاديّة متنوّعة. لكن مع تراجع مداخيل الدولة بسبب الأزمات الإقليميّة وسوء الإدارة واستمرار انتفاخ حجم القطاع العام (30% من حجم القوى العاملة بينما 20% في فرنسا) كان ل "برميل البارود" الاجتماعيّ أن ينتظر الشرارة التي ستفجّره.

أرقام سريعة تظهر حجم المأزق

للمفارقة اقتربت نسبة نموّ الاقتصاد في فرنسا سنة 2018 من نسبة النموّ في لبنان حاليّاً، حيث ظلّت الأرقام دون 1% (وصلت إلى 0.3% في لبنان السنة الماضية). ويتوقّع صندوق النقد الدوليّ أن يصل عجز الحساب الجاري في لبنان إلى حوالي 30% من الناتج المحلّي الإجماليّ بحلول نهاية 2019، كما يتوقّع ارتفاع الدين العام إلى 155% من الناتج في الفترة نفسها. يضاف إلى ذلك مشكلة البنى التحتيّة المتهالكة وانتفاء دعم الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في إدارة مرافق الدولة وغياب التحفيز للمشاريع المنتجة.

من جهة أخرى، أشار الأستاذ المشارك في العلوم السياسيّة في "الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة" والباحث في "المركز اللبنانيّ للدراسات" باسل صلّوخ إلى أنّه في سنة 2018، بلغت الرواتب والأجور والمزايا العامّة 46 مليار دولار أي 35% من الإنفاق الحكوميّ. وذكر صلّوخ أمس في مقال له ضمن صحيفة "واشنطن بوست" أنّ هذا الرقم يعادل 21.29% من كلّ الإنفاق الحكوميّ منذ سنة 1993 – 2017 والذي بلغ 216 مليار دولار.

تساؤلات عن المستقبل

بالرغم من تجمّع عناصره، لم يكن سهلاً على المراقبين توقّع أن يحصل "الانفجار" بالطريقة التي شهدها لبنان. فالتجارب السابقة رسّخت إلى حدّ بعيد فكرة أنّ الحواجز الطائفيّة صعبة الكسر. وعلى أيّ حال، لا يزال يصعب اليوم تقييم مدى نجاح الحراك الحاليّ، علماً أنّ طبيعة التحرّك يعدّ إلى الآن نقلة نوعيّة. حين خاطب ماكرون الفرنسيّين، اعترف بأنّه "فشل في مصالحة الفرنسيّين مع قادتهم" وقد نظر الفرنسيّون إلى ماكرون على أنّه "رئيس الأغنياء" و "شعبويّ النخب". وساهم رفضه مقترح إعادة فرض الضريبة على الثروة في تعزيز هذا الانطباع. بالمقابل، ينتظر اللبنانيّون اعترافاً مشابهاً بأنّ الزعماء فشلوا في مصالحة الشعب مع أدائهم، باستثناء بعض الأصوات الخجولة. وحتى مع اقتراح الحكومة خطّة اقتصاديّة سريعة وفقاً لما قاله رئيسها سعد الحريري، ليس واضحاً ما إذا كان أركان الحكم قادرين على إصلاح ما انكسر داخل بيئاتهم السياسيّة.

لا يزال محتجّو "السترات الصفر" يشاركون في الاعتصامات والتحرّكات أيّام السبت لكن بأعداد ضئيلة جدّاً. اليوم، يقف المتظاهرون اللبنانيّون أمام تحدّيات جمّة، من بينها الاتّفاق على أهداف واضحة وإطار زمنيّ محدّد لتنفيذها. قد لا يكون لبنان قادراً على تحمّل المظاهرات لعشرة أشهر ولو بشكل متفرّق كما هي الحال في فرنسا، بما أنّه غير محميّ من الانزلاق في تعقيدات الحروب أو حتى التوتّرات الإقليميّة. لكنّ التفكير كثيراً في المستقبل منذ الآن يمكن أن يفسد اللحظة الاستثنائيّة التي يعيشها اللبنانيّون حاليّاً.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم