الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

الجمعة بعد الظهر

عقل العويط
عقل العويط
الجمعة بعد الظهر
الجمعة بعد الظهر
A+ A-

الجمعة بعد الظهر، أنا الذي تعرفونني لا تعودون تعرفونني. أنزع قناعي المدينيّ المهذّب. أتسلّم وجهي الذي تحت القناع. أصير الأنا تلك، المتروكة في الهواء. أخرج من ربقة الجاذبيّة الاجتماعيّة ومصطلحاتها. أترك الفلك هذا، والدائرين فيه. أنسرب. أهرب. أختفي. أطير. أحلّق. أغيم. أتبدّد. أتّحد. أُولَد. أنزل إلى الينابيع. أنساب. أسيل. أتجوهر. تأخذني الجهة الأولى إليها. تستردّني. وتعيد إليَّ ما فاتني من وجودي، ومن مواثيقي وعهودي.

الجمعة بعد الظهر، ابتداءً من هذا التوقيت الأسبوعيّ، أستأجر سيّارة، أي سيّارة، فتقودني بالتي هي أحسن، قاصدةً بي، صحبةَ كوبر، المكانَ الذي هو إيّايَ، وأنايَ، وعناصري الأربعة، ومائي الكيانيّ، والذي هو لحظة انجراحي الأساسيّ بالضوء، والذي هو أهلي، والمعايير، لأستجمع التراب الذي جُعِل منه وجهي، وانصنعتْ به جبلتي.

الجمعة بعد الظهر، ابتداءً من هذا التوقيت الأسبوعيّ، كلّ مرّة تغفر لي الجغرافيا، جغرافيا الزيتون، خيانتي الافتراضيّة لها، لتجعلني، كلّ مرّة، جزءًا رضيًّا من روح هذه الجغرافيا. تضعني فقط في نهر المعموديّة. ولا تعاتبني. بل فقط تغسلني بالزوفى. وتنقّيني تحت الشمس. وتحت العصافير. والقصد الوحيد من ذلك، أنْ تُزيل بعض ما علق على روحي من غبارٍ آسن، ومن أناسٍ آسنين، في الجغرافيات الاستغرابيّة، المسطّحة، المفرّغة من معناها، الآفلة، التي تتبودر، وتتلوّن، وتتمسكن، وتتخلّى عن جواهرها الأصليّة، لتصير أيّ جغرافيا، وكلّ جغرافيا، بل كلّ شيءٍ سوى الجغرافيا.

الجمعة بعد الظهر، ابتداءً من هذا التوقيت الأسبوعيّ، ترتضيني البوصلةُ المذهّبة بالعقل، لأكون خادمها، وترتضيني لأفتدي ثعلبها العائد، صحبةَ كوبر، إلى البراري والجلول والأودية والظلال. ولا بدّ أن تأخذ بيدي إلى المطبخ المضمّخ بالياسمين وعطر الليل والصعتر والحبق وإكليل الجبل، لأصنع لها قهوتها المستاءة من كوني قد أهملتُها، لانشغالي عنها بثرثرات الوقت المهمل والضائع عبثًا في الهواء التاريخيّ الملوّث.

الجمعة بعد الظهر، ابتداءً من هذا التوقيت الأسبوعيّ، أعود إليَّ، فأمشي حافيًا، مستعيدًا قَدَمَيَّ الترابيّتَين، الموصولتَين بالأرض، بالحصى، بالدروب، بالعشب، بالقندول، بالعلّيق، بالطيّون، ساعيًا إلى تليين جسميَ المهمَل، وإعادة تأهيله ليكون بعضًا من جسم الهواء، ومتّكًأ لنزق العصافير، فأتسلّق، وأتعمشق، وأهرول، وأتدحرج، متدروشًا، غير عابئٍ بالشكل، والأشكال، بل ضاحكًا، مستخفًّا، ليّنًا، مسترشدًا بالعِبَر المرئيّة بقلبي، التي لولاها ما كنتُ ولن أكون شيئًا يُذكَر ها هنا، وها هنالك.

بعد ظهر الجمعة، ابتداءً من هذا التوقيت الأسبوعيّ، يكفيني أنْ أتهيّأ من أجل أنْ يزورني أهليَ الموتى، وجاريَ الهواء، وجاريَ القمر، وأخوتي الثعالب التي تتذكّر قطاف العنب والتين في هواجس العتمة، وجَرَس الكنيسة المؤذّن الجريح الحنون. ويكفيني أنْ أصير صنيعة الليل الذكيّ المفرد، وصنيعة فجره المأهول بنعاس القمر، والمغسول بندى الانتظار الشمسيّ. ويكفيني أنْ أصير هذا الوقت الضئيل، الذي يصير هو الوقت، وهو الجمعة، وهو الأسبوع كلّه، وأوّل الدنيا، والآخرة!

بعد ظهر الجمعة، ابتداءً من هذا التوقيت الأسبوعيّ، تأخذني البوصلةُ المذهّبةُ بالعقل إلى هناك، صحبةَ كوبر، لكي عندما أعود إلى المدينة، أرى جيّدًا روح المدينة، وحقيقتها، وأرى بوجهي، وبالقناع، روح لبنان، وحقيقته، وأحافظ على كرامتي وسيادتي فيه.











[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم