الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

مانيفستو التأملات في أوضاع الكوكب الكابوسية

منى فياض
مانيفستو التأملات في أوضاع الكوكب الكابوسية
مانيفستو التأملات في أوضاع الكوكب الكابوسية
A+ A-

تعرفون كيف يكون الحلم. تكون في مكان، يتحول إلى آخر، تصبح أسيراً فيه دون أن تفهم لماذا وكيف لا تفتح الأبواب أو لماذا تختفي الأبواب وتصبح نفقاً متعرجاً لا يحمل على الطمأنينة أو هوّة تظل تسقط فيها. يطغى فجأة شعور بالذعر كما لو أن الأمر حقيقياً، كما لو أنك تخضع لإرادات سحر غامض، سادي وشرير.

لكن هذا الرعب لا يدوم في الحلم سوى ثوان معدودة. فحتى أكثر الأحلام "واقعية" تحمل في طياتها مسحة خفيفة من التفاوت والتنافر. أو أن شيئاً ما، يشبه غلالة غرائبية، ينبهك إلى أن هذا ليس سوى فبركات خيالك.

المشكلة هي عندما تعطيك حياتك الواقعية هذا الإحساس؛ مع صعوبة في توقع أية مخارج أو انفراجات. هذا ما يترك لك طعما مراً بنكهة النهايات، نهاية حقبة تحوم حول عالمنا، إذا لم نقل نهاية العالم نفسه. تحفر الأحداث الجارية مقبرة للمستقبل، المجمع من بعض البقايا العائمة على سطح بسيطتنا المشبعة بالمواد البلاستيكية.

يؤكد أمين معلوف أن انطفاء أنوار المشرق عممّت عتمته على سائر الكرة الأرضية

في قبضة عقود من الهروب إلى الأمام، نواجه المحتوم الممسك بتلابيبنا والذي لا مفر منه. رئة العالم تحترق أو تحرق. بؤس مليارات البشر الذين استغلتهم الدول الغنية عاد ليصفعها على شكل هجرة ولجوء وإرهاب. ناهيك عن المجاعات المنتظرة جراء التغيرات المناخية.

اقتصاد السوق المعولم والسيبراني يحفر عميقاً في بئر اللامساواة وفي التباعد سواء بين الأفراد أو بين الدول. يتحول الاقتصاد العالمي إلى شأن يخص حفنة من المتمولين وإلى صناديق استثمار، تدوسنا تحت أقدامها.

مع ذلك، نقبل الوضع ونسكت عنه. بانتفاضات أو من دونها، بسترات صفراء أو دون لون.. من دون أن نضع موضع تساؤل "السيستم" الذي أوصلنا إلى هذه الفوضى التي تعم الطبيعة والمجتمعات والعالم. يقبل ملايين ومليارات البشر مصائرهم وهم إما غافلون أو متفرجون.

والأشد غفلة بين سكان كرتنا الزرقاء المغلفة بغمامة مثقوبة هم العرب. أي جردة حساب سوف نجدهم في قعر المؤشرات الجيدة وفي طليعة المؤشرات السيئة. في عالم رقمي سيبراني لا نزال ننتج ملايين الأميين والمعوقين عن المعرفة جراء العنف والعجز عن التطور والتنمية.

ينعى أمين معلوف في كتابه "غرق الحضارات"، الصادر حديثا، منذ أول صفحة الحضارة المحتضرة التي ولد فيها. مودعاً الزمن الذي كان يشعر فيه البشر أنهم زائلون في عالم أزلي، يعيشون ببديهية على أرض أجدادهم ويزاولون أعمالهم وعلومهم وطقوسهم ذاتها. الآن تتغير حياتنا في قفزات نعجز عن التوقف لمراجعتها وتتحول الإنسانية تحت أبصارنا ونعيش مغامرة لا نعرف إلى أي مصائر ستقودنا.

المشرق، الذي ازدهرت حواضره من الإسكندرية حتى بيروت ومن طرابلس وحلب وبغداد إلى القسطنطينية؛ مجموعة الأمكنة التي تلاقت فيها الحضارات الشرقية القديمة مع الحضارات الغربية حديثة العهد؛ والذي كان يمكن أن ينتج عنه مستقبل مختلف وأكثر إشراقا للبشرية. حصل فيه العكس للأسف.

انتهى التعايش الذي استمر بين مختلف الأديان والثقافات والشعوب التي استمرت تتقاسم الحياة بانسجام ووئام لأزمنة عرفت فيها الرفاه والتطور.

لم يعد أحد ينتظر أن يتمرد "محكومو الأرض". وهو أمر مرعب فيما لو حصل

يؤكد أمين معلوف أن انطفاء أنوار المشرق عممّت عتمته على سائر الكرة الأرضية. كان جمال عبد الناصر آخر مردة العالم العربي ويمكن القول حظه الأخير للنهوض. لكنه أخطأ تماما فيما يتعلق بالأسئلة الجوهرية، فلم يترك خلفه سوى المرارة واللوم والخيبة. قضى على التعدد من أجل أن يرسي قواعد الحزب الواحد وكمم الصحافة التي كانت مزدهرة في النظام القديم واعتمد على الأجهزة السرية لإسكات المعارضين؛ أما إدارته البيروقراطية للاقتصاد المصري، فكانت غير مجدية ومفلسة. أما ديماغوجيته الوطنية فقادته إلى الهاوية وجرّت خلفه العالم العربي بأكمله.

ورث لبنان دور قاهرة ما قبل عبد الناصر، فغدا صحيفة العرب وملجأ المضطهدين وجنة الحريات ومركز أهم الجامعات وبلد الانفتاح على الغرب والعالم؛ الأمر الذي كان يمكن أن يؤهله لينتشل المشرق والعالم العربي من الهوة التي يغرق بها. لكنه عجز عن استكمال ما بدأه فؤاد شهاب وانحدر إلى هاوية العنف والتعصب واليأس والتقهقر، فاقداً الثقة بنفسه ولأي رؤيا مستقبلية.

سبق أن تنبأ البعض أن صراع الحضارات سيختتم نهاية القرن العشرين وخصوصا صراع الأديان. صح الافتراض للأسف، لكن ما تبين خطأه افتراض أن اصطدام الثقافات هذا سيدعم تماسكها الداخلي. يحصل العكس تماما. إذ تعاني الإنسانية حالياً من الميل إلى الانقسام والتجزئة والتفتيت. وأفضل مثال وأوضحه العالم العربي الذي يبدو أنه أخذ على عاتقه تضخيم مساوئ الحقبة الحالية إلى أقصى حدود العبث.

وإذا كانت الكراهية لا تتوقف عن التعاظم بينه وبين سائر قاطني الكوكب، نجد أن أسوأ التمزقات والنزاعات الدموية تنخر داخله وتغطي معظم أنحائه من المحيط إلى الخليج...

لا شك أن التحلل والتفكك في هذه المنطقة بلغا حد التطرف، لكن سائر أنحاء الكرة يتجه أيضا للانخراط في الميول التجزيئية والقبلية نفسها. بدءاً من الولايات المتحدة، التي بات يميل البعض إلى تسميتها بالولايات غير المتحدة مروراً بالاتحاد الأوروبي الذي زعزعه البريكسيت البريطاني.. وتطال بلدانا موحدة منذ قرون كإسبانيا والاتحاد الروسي وبلدان أوروبا الشرقية التي كانت قبل سقوط حائط برلين 9 دول وأصبحت الآن 29.

لا شك أن هذه التجزئة ليس لها تفسير وحيد وبسيط؛ مع ذلك وبغض النظر عن الخصوصيات المحلية يمكن أن يكون ذلك تعبيراً عما يسميه إدغار موران "روح العصر". ففي كل مجتمع على حدة، وعلى مستوى البشرية، تتغلب عوامل التفرقة على عوامل لمّ الشمل. وكأن العالم طفح بالإسمنت المغشوش فخسر دوره اللاصق. وما يزيد الوضع سوءاً أن الانتماء الديني، الذي من المفترض أنه عامل جمع، أصبح هو أيضاً عامل تفرقة.

إنه عالم فاقد بوصلة القيم الأخلاقية. عالم يعيش تفسخ النسيج الاجتماعي في بلدانه بمجملها

كأن الذهنية التي تدير العالم تعود إلى إنكلترا القرن الثامن عشر والتي تفترض أن على كل شخص أن يعمل حسب مصالحه الخاصة، وحاصل مجموع هذه الأنانيات سيكون لصالح المجتمع ككل؛ بافتراض وجود "يد خفية" إلهية تتدخل كي تضفي الانسجام على مجمل الأفعال!

هناك حذر ونقص في الثقة في كل من يتنبأ بالكوارث الشاملة ويطالب بمواجهتها. تشكيك بالتحذيرات من التغير المناخي وما سينتج عنه، غير مبالين بدخان حرائق سيبيريا والأمازون، كما طلائع مشكلة اللجوء الكونية التي تنتج، باضطراد، عن الكوارث الطبيعية المتفاقمة. ناهيك عن تشريع التفاوتات مهما تعاظمت والقبول بالتسريح العشوائي والبطالة الناتجة، دون رفة جفن.

هذا ما تغير ويطبع العالم اليوم. نراقب من الآن وصاعداً تراكم الثروات والغنى الفاحش واستعراضهما بإعجاب بدل الإدانة. لم يعد أحد ينتظر أن يتمرد "محكومو الأرض". وهو أمر مرعب فيما لو حصل وقد يمسح كل شيء.

إنه عالم فاقد بوصلة القيم الأخلاقية. عالم يعيش تفسخ النسيج الاجتماعي في بلدانه بمجملها.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم