الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

قراءة في كتاب "طرق الحرير، نظرة جديدة للتاريخ" لبيتر فرانكوبان

طلال خواجة
قراءة في كتاب "طرق الحرير، نظرة جديدة للتاريخ" لبيتر فرانكوبان
قراءة في كتاب "طرق الحرير، نظرة جديدة للتاريخ" لبيتر فرانكوبان
A+ A-

يقول أمين معلوف في كتابه "غرق الحضارات": "ولدت في صحة جيدة بين يدي حضارة تموت وعشت حياتي شاعراً بالنجاة من الموت بينما الذي حولي ينهار مرمداً". هكذا يرى المعلوف شرق ولادته دماراً، ناظراً إليه من غرب إقامته.

هي هذه الجدلية الأزلية بين الشرق والغرب والتي لا تنفك تتمظهر وتتغير في كل مرحلة من مراحل التاريخ، خصوصاً بعد سيادة الحضارة الاوروبية في القرون الأخيرة والتي أنتجت معها مفاهيمها ولغتها ومفرداتها ونظمها ونمط حياتها والتي أطلقت معايير الحداثة ما قبلها وما بعدها.

وهو الشرق بتاريخه وسحره والغرب بحداثته واستعلائه، والذي أنتج مفاهيم استشراقية تميل بمعظمها لجهة الرابح، دافعة الجميع إلى الانبهار من جهة، والدفاع أو التسليم إن لم نقل الاستسلام من جهة أخرى.

والسؤال هو هل نحن أمام صراع وتصادم حضارات أم صراع "الإمبراطوريات الكبيرة والصغيرة"، الأميركية والأوروبية والصينية والروسية والفارسية والتركو/العثمانية وغيرها، حيث تتحول أراضي دول كثيرة أماكن للمبارزة حول النفط والغاز والمعادن وغيرها من المواد الخام والمصنعة، كما يحصل حالياً في المنطقة العربية التي حول ربيعها الجميل إلى شتاء قاس شاركت في تشكيل غيومه معظم القوى الإقليمية والدولية.

إنه الاقتصاد الذي كان وما زال محور حراك الشعوب والأمم والإمبراطوريات على مر العصور.

فالمنطقة العربية كانت وما زالت تشكل جزءاً من ممر أساسي بين الغرب والشرق، فهي حلقة من حلقات السلسلة الواسعة التي تمتد من المتوسط كما من البحر الأسود الى كازاخستان ومنغوليا مروراً بالكوكس ودول السهوب كما بتركيا وإيران وأفغانستان. حلقة وصل بين الغرب الاوروبي والاميركي والشرق الصيني والهندي وصولاً للباسيفيك دون أن ننسى الروسي الأوراسي.

لقد أصبحت كلمة طرق الحرير تخترق المقالات والمناظرات والتحليلات والتصريحات، حتى إن بلداً صغيراً كلبنان لا ينفك العملاق الصيني عن طرق ابوابه، ويكاد المثل القديم يتحول من:


اطلبوا العلم ولو في الصين إلى اطلبوا الاستثمارات ولو في لبنان.

وقد شكل الحرير ومنذ القدم السلعة الأغلى والتي جذبت حتى البدو الاشداء والمتوحشين في سهوب آسيا وأطراف اوروبا الشرقية والذين كانوا يبادلونها باالأحصنة التي شكلت جزءاً من اقتصادهم الى جانب غيرها من أنواع الماشية والجلود، كما "بالخدمات" باعتبارهم شبيحة الطرقات وأرياف المدن. كما جذب الحرير سيدات المدن الرومانية وبعض رجالها، لدرجة أنه أنهك الاقتصاد الروماني وخلخل واقعه الأخلاقي والاجتماعي، حتى إن مجلس الشيوخ سن قوانين خاصة لمنع الرجال من لبسها.

والحرير الصيني العالي الجودة شكل عملة إلى جانب الحبوب، وكان يدفع كراتب للعسكر المرابط في الاماكن البعيدة والتي لا تنفع معها العملات المعدنية، حتى إنه تحول الى عملة عالمية كالذهب والفضة.

ومع أن الحرير لم يعد عملياً، إلا أن كل الطرق التي يجري التخطيط لها والتي تربط الصين والهند والخليج بضفتيه بشرق اسيا وبوسطها وبأوراسيا وصولاً لاوروبا الغربية، وكما بغربها بالمشرق وبمصر وأفريقيا السمراء والسوداء، بما فيها الطرق البحرية، وحتى طرق المعلومات أصبحت حريرية بامتياز.

وطريق الحرير هو تعبير أطلقه جيولوجي ألماني يدعى فردينان فون ريتشهوفن في القرن التاسع عشر على الطريق التي ربطت الصين والهند بالبحر الأسود، كما بالمتوسط مروراً ببلاد فارس ووسط آسيا، بعدما تمددت الأمبراطورية الصينية باتجاه كوريدور غانسو وأبعدت شبيحة السهوب، مسهلة التجارة للمرة الأولى مباشرة عبر الطريق الذي يمر بمدن صعدت ونمت بسبب من موقعها على الخطوط التجارية.

في منتدى للاستثمار الصيني عقد في بيروت تحت شعار "استعادة موقع لبنان المالي والخدماتي والسياحي" (وتبعه لاحقاً منتدى بيجينغ من أجل الحزام والطريق)، قال السفير الصيني إن "لبنان يمكن ان يصبح لؤلؤة ساحرة في الحزام والطريق" . وهذا السفير لا ينفك يدغدغ أحلام رئيس غرفة طرابلس في مشروعه طرابلس الكبرى عاصمة اقتصادية للبنان، عارضاً خدمات العملاق الصيني الذي ما زال يحتفظ بصورة ماو تسي تونغ في الساحة المحرمة (ربما للتذكير بسطوة الحزب وبثورة ماو الثقافية) بينما رمى كتبه "المقدسة" جانباً ليبني ناطحات السحاب والطرق العملاقة والاقتصاد الذي أصبح الرقم الثاني بعد الاقتصاد الأميركي، مستعيداً العظمة الصينية التي شكل طريق الحرير وغيره من الطرق البحرية واسطة وصول بضائعها النفيسة الى القصور والبيوت الاوروبية الغنية، والتي تزين متاحفها في مدنها الكبيرة، إبان نهوض اوروبا.

في زيارة لابنتي في لندن في أوائل 2019 وقع نظري في مكتبتها الصغيرة على كتاب "طرق الحرير" لبيتر فرانكوبان، مع عنوان فرعي "تاريخ جديد للعالم". ومن الطبيعي أن أحاول تصفحه بعدما أصبحت كلمة طريق الحرير بلسماً تنتظره البشرية لإعادة وصل أجزائها المتناثرة في الحروب والصراعات والمذابح، خصوصا اننا في الشرق العربي والإسلامي، ما نزال نعيش صدمة الهوة الحضارية بيننا وبين الغرب، والتي يبدو أن ردمها بحاجة لإعادة قراءة التاريخ وتتبع تشكل الحضارات من وجهة نظر جديدة، علنا نحدد معالم وأسس الدينامية التي نقلت مراكز العلم من بغداد ودمشق وسمرقند وقرطبة الى اوكسفورد وكامبريدج وهارفرد ويال.

وفي تصفحي للتعليقات الكثيرة على الكتاب لفتني تعليق ورد فيIrish left review يقول: "إن المؤلف هو هيرودوتس القرن الحادي والعشرين".

والمؤرخ هيرودوتس عاصر جدود الإسكندر الكبير الذي تتلمذ على يد أرسطو والذي أثرت فتوحاته، في مصر والمشرق وبلاد فارس وصولاً للهند، في جميع جوانب الحياة في الشرق والغرب (الذي كان يعني عملياً مدن شمال وغرب المتوسط في تلك الفترة)، حتى إن تماثيل بوذا أصبحت دارجة كما تماثيل أبولو، كما اختلطت اللغات والآداب الكلاسيكية الهندية والفارسية واليونانية.

وجاذبية فرنكوبان تعود أيضاً الى الأسباب الخاصة التي تقف وراء اختياراته الاكاديمية وأبحاثه الفريدة التي أنتجها في أوكسفورد خصوصاً.

ويقول المؤلف إنه منذ صغره كان يتأمل يومياً في خريطة العالم الموضوعة في غرفته، والتي حفظ عواصم دولها وجبالها وأوديتها وأنهارها، ما جعله يتساءل لماذا يتم التركيز فقط في المدرسة على اوروبا الغربية والولايات المتحدة، وكأنها تختصر العالم والكون. ويشير المؤلف إلى أن بداية تفتحه حصلت مع كتاب لإريك والف أهداه له والده في عيد ميلاده الرابع عشر، يقول إريك فيه إن الغرب يمارس سردية باردة واستعلائية تستند إلى ان الديموقراطية والحداثة والتصنيع هي امتداد للتنوير والنهضة وأوروبا المسيحية ثم إلى روما واثينا، ما يؤشر للتفوق الغربي الأزلي أو لنهاية التاريخ وحتى بدايته بمعنى من المعاني. وهذه السردية ساهمت بالعنصرية وبسيادة الإنسان الأبيض. (وما كتبه منفذ مجزرة المسجدين في نيوزيلاند على البنادق يظهر الأثر السلبي للسردية الغربية للتاريخ ولموضوع الحضارات).


في هذا الكتاب يدرس فرنكوبان التاريخ من وجهة نظر علمية ومحايدة، مختلفة عن سردية الطرف المنتصر، ويعلن منذ البداية انه مهتم بمعرفة نشوء روسيا وبلاد وسط آسيا وفارس وبلاد ما بين النهرين، وبدو السهوب الذين تحولوا لامبراطوريات أسطورية كالمغول والتيمور والعثمانيين وحتى المماليك. كما يعلن أنه يريد أن يدرس أصول المسيحية الشرقية من جهة آسيا وأديانها الأخرى كاليهودية والإسلام كما البوذية والهندوسية والزروستية، وكيف تفاعل الغزاة الصليبيون مع شعوب المشرق. درس المؤلف في المدرسة لغات كثيرة بينها الروسية والعربية للاطلاع المباشر على كلاسيكيات الشعوب في المنطقة التي تشكل الجسر بين الغرب والشرق.

لم يكتشف بيتر أحداثاً جديدة، بل غرف من كل ما وجد وكتب، خصوصاً من المؤرخين والجيوغرافيين والرحالة العرب والأتراك والفرس والصينيين، كما اليونانيين والمؤرخين الغربيين عموماً. وهو أعاد ترتيب الأحداث والتطورات التاريخية باتجاه تثبيت نظرية آمن بها منذ البداية وأشار لها في المقدمة. وهي أن الجسر الذي ربط الغرب والشرق شكل المرجل الذي صنعت فيه اللغات والافكار، بما فيها الاديان المتنوعة، كما تلاقحت فيه الحضارات.

ويؤكد بيتر فرانكوبان:

أولاً: أن بداية التطور الاجتماعي التاريخي حصلت في مدن بابل ونينوى وعموم بلاد ما بين النهرين والتي ظهرت فيها "جنات عدن" والانبياء الاوائل بمن فيهم أبو الانبياء إبرهيم.

كما إن قوانين وشرائع حمورابي ظهرت هناك قبل قوانين الرومان بألفي سنة.

وأول براعم العلوم تفتحت هناك، خصوصاً علوم الرياضيات التي تعاملت مع قضايا توزيع الاراضي الزراعية.

ثانياً: إن تبادل البضائع القادمة من الشرق والغرب، بما فيها "العبيد" واحصنة ومواشي بدو السهوب (الممتدة مراعيهم من البحر الأسود وبحر قزوين وحتى منغوليا) كان يتم في مدن وحواضر عامرة في أواسط آسيا وخصوصاً في المدن الأكثر تحضراً في كوشان وفارس وموزوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) كمرف وراي وبكتريا ومتروبوليس وبابل.

لذا كان طبيعياً أن يتوجه الاسكندر المقدوني نحو مصر صاحبة الحضارة الفرعونية والإنتاج الوفير في دلتا النيل لإخضاعها اولاً، بانياً الاسكندرية العظيمة، ومن ثم التوجه نحو المشرق الفينيقي والكنعاني، ثم وسط آسيا الغني بموارده وفنونه وصروحه وثقافته ومنتجاته. لم يتوجه الاسكندر نحو أوروبا الخاوية إلا من الصراعات الدموية والأمراض آنذاك.

والرومان فعلوا نفس الشيء مع تركيز أكبر على البحر الاحمر والشرق الاقرب كفلسطين ولبنان وسوريا وبناء أو تطوير مدن ومراكز ومرافئ (كبترا صلة الوصل بين المتوسط والجزيرة العربية، وتدمر فينيسيا الشرق في الصحراء) تربطهم بالخليج والهند والصين، كما بفارس ووسط آسيا وسهوبها. وقد أقام الرومان نظاماً ضرائبياً قاسياً ومتيناً وصل إلى حد تعداد كل الرجال والمواليد لخدمة هذا النظام. وهذا عنى أن ميلاد السيد المسيح بالنسبة لهم شكل مشروع إنتاج عمل وضريبة لبيت المال في روما، قبل أن "يصلبه" بيلاطس لاحقاً نزولاً على رغبة أحبار اليهود الخائفين من الدعوة الجديدة.

وإذ احتل الرومان الأشداء معظم اوروبا رغم خوائها، فقد تركوا لندن لمصيرها المحتوم عند اول انتكاسة في المركز رغم مناشدة اهلها للجنود الرومان بالبقاء لحمايتهم.

ثالثاً: لقد ترافق تبادل البضائع مع تبادل الأفكار والعادات والعلوم والآداب. وكان يترافق أحياناً مع جولات قاسية من العنف والتدمير والمذابح، فضلاً عن انتقال الأمراض الفتاكة كالطاعون. وكانت تُدمر مدن أو تنزوي مدن وتنشأ مدن أخرى، خصوصاً في الطرق التجارية الجديدة التي يجب تأمينها وحمايتها بواسطة الأسوار والأبواب والعسكر من الصين وصولاً للمتوسط، كما للبحر الأسود وما يليه. وكانت تنشأ معارض للمنتجات في بعض المدن من التجار الذين شكلوا الصمغ الذي كان يربط المدن والدساكر على طول طرق الحرير.

وقد شكلت الأديان محوراً أساسياً في التفاعلات كما في الصراعات بين الشعوب والأمبراطوريات، خصوصاً بعدما صارت المسيحية دين الدولة الرومانية الرسمي مع الإمبراطور قسطنطين بعد اضطهاد طويل .علماً أن تسامح الأرستقراطية الفارسية سمح بتمدد كبير للمسيحية في أواسط آسيا وشرقها وحتى ضمن بدو السهوب الاكثر تخلفاً وغرابة.

رابعاً: شكل ظهور الإسلام في منطقة هادئة نسبياً، تطوراً نوعياً هائلاً، وخلال مرحلة من الحروب الدامية الفارسية/الرومانية انتهت بانتصار الرومان بقيادة هركليتس وأدت لانكماش اقتصادي عام، بما فيها في بلاد الحجاز. والإسلام أعطى العرب المتفرقين هوية واحدة ولغة واحدة بالدعوة والقوة معاً. ومع نشوء الخلافة وفتوحاتها بكل الاتجاهات وحّد هذا الدين الصاعد العرب ببدوهم وحضرهم في عموم الجزيرة العربية، وحولهم إلى إمبراطورية عالمية تمددت سيطرتها الى العراق وبلاد فارس ووسط آسيا وبعض الهند والصين، كما لسوريا وفلسطين ومصر وافريقيا السمراء وبعض السوداء وصولاً لإسبانيا وبعض بلاد الغال، قبل أن يتراجعوا باتجاه الاندلس التي حكموها قرابة ثمانية قرون، بعد خسارتهم معركة كبيرة حصلت بين بواتيه وتور.

ويقول فرانكوبان إن المسلمين المتفوقين حضارياً، لم يروا في أوروبا الغربية الشبه خاوية ما يستحق تكرار المحاولة، وليس لأنهم عجزوا عن ذلك .إذ إن تركيزهم الاقتصادي كان على المتوسط وعلى مصر والمشرق وعموم آسيا، حتى إنهم عززوا طريق الحرير بما سمي لاحقاً طريق الفرو بتجارتهم الواسعة مع بدو السهوب الذين وصف أبو الفضلان مناطقهم ونمط حياتهم غير المألوف وبعض المحطات التجارية التي تمر بهم كمن يصور فيلماً تسجيلياً.


وبينما كان الخيام والخوارزمي وابن سينا يبحثون في حلول للمعادلات الرياضية والمشاكل الطبية، كانت مقاطعات ودول اوروبا الغربية تغرق في ظلام الجهل والمرض والتقاتل، حتى بعد قرون من غزو قبائل البدو والبرابرة القادمة من أوراسيا، وبينهم قبائل الهان المرعبة بقيادة أتيلا والتي أنهت سيطرة روما، بينما نجت من هولها القسطنطينية ببعض التحالفات مع قبائل تركية قوية وبشق النفس.

وكان على أوروبا أن تنتظر الصليبي أديلايد ليأتي بكتب الرياضيات من مكتبات دمشق وأنطاكية لتنجب لاحقاً علماء رياضيات، أمثال تارتاغليا وفرراري وغيرهما ليتابعوا بحث معادلات الخيام والخوارزمي الرياضية، علماً أن علماء العرب والمسلمين استندوا إلى ما وصلهم من اليونان والهند ومصر وبقية الحضارات.

ويؤكد فرنكوبان أن التسامح مع الأديان التوحيدية الأخرى والانفتاح على شعوب البلاد التي احتلوها، شكل بشكل عام السمة الأبرز لسادة العالم الجدد. وإذ يقول إن الصراعات الداخلية رافقت صعود المنتصرين الجدد، خصوصاً بعد تنامي انقساماتهم المذهبية والقبلية، كما لاحقاً مع دخول المماليك وغيرهم من الشعوبيين في بلاد الخلافة، الا ان ذلك لم يمنع من تمددهم خصوصاً في الاطراف، كما لم يمنع بأن يبنوا، وهم متفرقون، مدناً مهمة بينها بغداد الاسطورية في الشرق وقاهرة المعز في مصر وقرطبة العلم في الأندلس.

خامساً: لطالما شكلت تجارة "العبيد" ركناً أساسياً في اقتصاد الامبراطوريات والدول في التاريخ القديم، خصوصاً في الامبراطوية الرومانية. وقد اضطلع الاسكندينافيون الفايكنغ والراس عديمو الرحمة (ومنهم تكون لاحقاً الشعب الروسي) في مراحل لاحقة بأدوار كببرة في هذه التجارة. كانوا يأتون "بالبضاعة" من غزواتهم من أوروبا الوسطى (السلافية من(slave ومن أوروبا المسيحية أيضاً، كما من بعض مناطقهم التي يغزونها، ويبيعونها للمسلمين الاغنياء، سواء من طريق الحرير في أوراسيا بالتبادل مع بدو السهوب، أو بالذهاب مباشرة لبغداد عاصمة الخلافة العباسية. ونشط أيضا التجار اليهود في تجارة العبيد، كما بعض الأوروبيين، وخصوصاً تجار البندفية الذين تاجروا حتى بأسرى المدن الايطالية المنافسة، ما أثار حفيظة واستنكار البابا للتجارة "بالرجال الأحرار" المسيحيين.

وتوقف الفايكنغ لاحقاً عن هذه التجارة بعدما تحولوا لاقتصاد الحماية في مناطقهم والمناطق الاوروبية التي يحتلونها او يهددونها، قبل ان يتحضروا ويكونوا دولاً يقوم اقتصادها على الانتاج وتبادل البضائع.

سادساً: أوروبا في القرون الوسطى

لقد شكلت دول وإمارات ومقاطعات أوروبا الغربية في القرون الوسطى قوى اقليمية متصارعة ومتخلفة إلى حد ما، مع تمايز نسبي لبعض المدن المتوسطية كالبندقية وجنوى وفلورنسا .ومع ذلك فقد بنى الملوك والامراء ورجال الدين الكنائس والكاتدرائيات القوطية الرائعة (ككاتدرائية نوتردام) وأقاموا الصروح والتمائيل والنصب الضخمة، كما شجعوا فنون الرسم والنحت والعمارة التي اقتضتها المنافسات والتشاوف وجنون العظمة، فضلاً عن اهميتها الدينية نظراً لسيادة الكنيسة وسيطرتها على الحياة العامة ودورها الاستثنائي في تلك الفترة.

ويؤكد فرانكوبان أن بناء الصروح والمعابد وعموم الفنون، كما اتباع انماط الحياة الرغيدة، اقتبسها اليونان والرومان ولاحقا أوروبيو الداخل من الحضارات الفرعونية والشرقية واصبحت معياراً من معايير القوة والعظمة لأي دولة او امارة أو مقاطعة أو مدينة أوروبية.

والمعروف أن الحملات الصليبية التي دعا لها البابا أوربان الثاني تحت راية الصليب وضمن شعار إنقاذ المؤمنين في القدس والمشرق، اتت استجابة لاستغاثة امبراطور بيزنطيا أوريليوس القلق من تضاؤل نفوذه في الاناضول، نتيجة تصاعد نفوذ المجموعات التركية ذات الاصول القبلية السهوبية (وهي التي ستؤسس لاحقاً إمبراطورية ستحتل كل أراضي بيزنطيا والبلقان بما فيها القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية(.

لم تؤد هذه الحملات التي حملت الأوروبيين الغربيين إلى قلب العالم الى توحيد فعلي للمتنافسين، كما لم تحولهم إلى قوى عالمية على غرار أثينا وروما والقسطنطينبة والامبراطويات في الشرق. ومع ذلك فقد فتحت لهم للمرة الأولى ابواب الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم في الشرق المتقدم. وقد حمل الصليبيون معهم للمشرق خلافاتهم وصراعاتهم وأطماعهم وجشعهم وعنفهم الأعمى (ارتكبوا مذابح رهيبة، خصوصاً في القدس التي دخلوها سنة 1099 بعد حصار طويل، كما عاث فرسانهم فساداً وقتلاً ورعباً في اجتياح القسطنطينية نفسها بعد قرن، حتى قال أحد الكهنة اليونانيين عنهم، أنهم وحوش على شكل بشر). ولاحقاً عادوا إلى بلادهم بعد انهيار مملكتهم في القدس وسقوط قلاعهم والمدن الأخرى وبعد أن اكتسبوا بعضاً من عادات الحياة المشرقية.

وقد حالف الحظ الأوروبيين الغربيب حين توقف المغول عن متابعة احتلال اوروبا والفتك بها كما فعلوا في كل مكان بعدما اجتاحوا الكوكس وهنغاريا والبلقان، نتيجة وفاة الخان الأكبر فجأة وقرارهم بالعودة لتنظيم ترتيبات "انتخاب" الخلف المعقدة، ما جنبهم مصيراً مشابهاً لما حصل لهم قبل قرون حين استبيحت حواضرهم، بما فيها روما العظيمة.


والحقيقة فإن عين المغول كانت على الشرق وطرق الحرير، حيث احتلوا الصين وبنوا عاصمة جديدة وأصبحت بيجينغ الحالية، وعلى وسط آسيا والشرق الاوسط حيث احتلوا ايران الكبرى، وتقدموا بقيادة هولاكو باتجاه عاصمة الخلافة العباسية بغداد ففتكوا بها فتكا رهيبا، كما احتلوا دمشق، وعلى فلسطين ومصر حيث اصطدموا بالمماليك وهزموا بعين جالوت.

والمماليك هم من أخرج أخيراً الصليبيين من بقية مدن المشرق، خصوصاً عكا وصور وصيدا وبيروت وطرابلس، وأنهوا حلم أوروبا المسيحية في الشرق دون ان تنتهي المسيحية من الشرق الذي ولدت وتأصلت فيه.


ومع ذلك يمكن تسجيل ملاحظتين اساسيتين:

أ- ساهمت الحملات الصليبية بتحديد شكل المستقبل السياسي لأوروبا الغربية في القرون الوسطى، حيث أصبحت المسيحية القاسم المشترك بين الدول الاوروبية، وأصبح البابا يملك سلطات سياسية وعسكرية وليس فقط دينية.

ب- لم تتراجع نفوذ الدول- المدن الايطالية البحرية، خصوصاً العدوتين اللدودتين البندقية وجنوى بعد عودة الصليبيين من المشرق، بل حافظت على قوتها وعلاقاتها داخل آسيا ومصر وشمال إفريقيا، فاتحة خطوطاً تجارية من طريق البحر الاسود وسهوب روسيا وأوراسيا والكوكس وصولاً لايران وافغانستان والهند والصين وكل الشرق الاقصى داخل اراضي الإمبراطورية المغولية الواسعة. فالمغول وسعوا طرق التجارة العالمية وسهلوا عمليات التبادل بين الشرق والغرب وخففوا الضرائب لتعزيز طريق الحرير، علماً ان التسامح الديني كان سائداً عندهم، إذ إنه لم ينشأ دين خاص للإمبراطورية قبل ان ترثها تيمور المسلمة، كما حافظت البندقية وبعض المدن الإيطالية على خطوطها التجارية السابقة عبر بيروت والاسكندرية والقسطنطينية ومدن الشمال الأفريقي، مشكلة حلقة وصل تجارية بين الشرق وأوروبا، وقد شكلت رحلات ماركو بولو وابن بطوطة وحملات القائد الصيني زنغ هي مراجع مهمة لفهم خطوط المواصلات البرية والبحرية التي ربطت العالم ببعضه البعض وحولته الى عالم معولم.

سابعاً: صعود أوروبا الغربية

شكل اكتشاف الطرق البحرية هدفاً عند الأوروبيين، خصوصاً الأطلسيين، حيث كان المتوسط الاوروبي حكراً على أساطيل المدن الإيطالية في القرون الوسطى. والبرتغاليون كانوا سباقين في هذا المجال، إذ كانت سفنهم التجارية تجوب سواحل الأطلسي الأوروبية، ثم تمددوا باتجاه الساحل الأفريقي في محاولة للوصول لاسواق الهند والصين وعموم الشرق الاقصى، فضلاً عن استكشاف إمكانية استغلال ثروات أفريقيا الغربية. وهم من أعاد تجارة "العبيد" مع باقي أوروبا بعد توقف نسبي. علماً أن التخلص من الصعوبات والنزاعات التي تؤدي للحروب، فضلاً عن تعدد الضرائب على طول الخطوط التجارية البحرية والبرية القديمة شكل الحافز الرئيسي.

شكل سقوط القسطنطينية الأرثوذكسية على يد العثمانيين سنة 1453، وصعود الإسلام من جديد في هذه المنطقة المهمة نقطة تحول تاريخية. وللمفارقة فقد تبعه صعود إسبانيا الكاثوليكية بعد سقوط غرناطة آخر معاقل العرب في الاندلس سنة 1491. وقد تراجعت طرق الحرير التجارية، حتى إن البعض في روسيا وغيرها من العالم الأرثوذكسي أعاد اعتماد نظريات نهاية العالم وحدد عام 1492 موعداً لذلك.

ولما كان التوجه نحو الشرق هو الهدف الدائم لكل غربي نظراً إلى غناه الاقتصادي وسحره العمراني وتنوع ثقافاته، فضلاً عن هاجس القدس الديني، فقد أقنع كريستوف كولومبوس ملك إسبانيا فرديناند بتجهيز حملة بحرية للوصول للهند من طريق الذهاب غرباً، وكان يعتقد أيضاً أنه سيلاقي الخان المغولي في نهاية الطريق للاتفاق على "احتلال أو تحرير القدس".

انطلق كولومبوس في موعد الأبوكاليبس المفترض. وبعد اكتشاف القارة الأميركية بالمصادفة، نهبت وفتك بشعوبها وتم التلاعب بحضاراتهم بالسلاح والخداع في الحملات اللاحقة التي سرعان ما تحولت إلى حملات استيطانية أيضاً. ومع تدفق الذهب والفضة من العالم الجديد على إسبانيا، تحولت هذه الأخيرة في عهد شارل الخامس إلى قوة عالمية هائلة مكرسة أسبقيتها الأوروبية من البابا، خصوصاً بعد اكتشاف طريق الوصول للهند بحراً مع فاسكو دا غاما وتراجع الأهمية التجارية للمتوسط والبحر الأحمر.

أدى تدفق الثروات المتأتية من العبودية والاستغلال الرهيبين، ومن افتتاح واحتكار أسواق تجارية جديدة، وبناء مدن ومرافئ وخطوط موصلات جديدة، خصوصاً في المحيط الهادئ، إلى توفير الدعم للنشاطات العلمية والفنية والعسكرية وبالطبع الاقتصادية، ما جعل أوروبا تقفز قفزات حضارية سريعة. البرتغال وإسبانيا في البداية، تبعتهما هولندا بعد تحررها من اسبانيا، ثم إنكلترا بعد صراع طويل مع إسبانيا، ظاهره ديني (بروتستانتي/ كاثوليكي، حتى إن الانكليز ناصروا العثمانيين والمسلمين عموماً بوجه أوروبا الكاثوليكية) وجوهره صراع مصالح للسيطرة على الأسواق في اوروبا واسيا وبقية القارات، بعدما ربط بعضها ببعض نتيجة الاكتشافات البحرية المذهلة وتطور الأساطيل والمعدات العسكرية الملازمة لمتطلبات هذا التطور. وقد أدى تطور الأسطول والبحرية البريطانية تقنياً وتنظيماً إلى تحول بريطانيا للقوة الاأظم في اوروبا، خصوصاً بعد أن أنهى ويلنغتون أسطورة نابوليون في واترلو.

وقد رافق نشوء الأمم والامبراطوريات الاوروبية؛ الانكليزية والاسبانية والفرنسية والالمانية والايطالية والروسية والنمسوية/ الهنغارية وحتى العثمانية، حروب وصراعات في ما بينها وداخل كل أمة، خصوصاً مع تحول روسيا الى إمبراطورية كبيرة وتمددها شرقاً باتجاه اليابان، وجنوباً في الكوكس وسهوب آسيا ووسطها وصولاً لحدود أفغانستان الاستراتيجية وإيران النفطية والهند جوهرة التاج البريطاني. ما وضعها على تماس ومواجهة مع بريطانيا وحتى مع فرنسا، كما مع السلطنة العثمانية في القرم والبحر الأسود ومع اليابان أيضاً.

ترافق الصعود الأوروبي في البداية مع صعود الإمبراطوية العثمانية وانتعاش معظم أراضي السلطنة، كما أراضي فارس والهند ووسط آسيا حيث الكنوز المعمارية، كتاج محل وقصر بابور في كابل وصروح سمرقند وروائع سنان المعمارية.

هكذا أصبح الأوروبيون المتنافسون، بعدما تحولوا أمماً قوية بعلومهم المكتسبة وقوتهم العسكرية المتعاظمة وثورتهم الصناعية ونظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية سادة العالم الجدد.


وربما وجب وضع الملاحظات التالية:

أ- اعتبر الأوروبيون الغربيون وبعد سقوط القسطنطينية انهم ورثة روما وأثينا، وان امبراطورياتهم الجديدة هي امتداد للقديمة، وهو ما أثبت فرانكوبان عدم دقته عبر سرديته العلمية لنهوض أوروبا الغربية، رغم تمثل نخبهم بالمظاهر الرومانية وتباهيهم بالفلسفة اليونانية التي حدثها ابن رشد، حتى إن الولايات المتحدة الاميركية أقامت مبنى الكابيتول على الطريقة الرومانية وأطلقت اسم أبولو على مركباتها المرسلة الى القمر.

ب- رافق انتقال دول أروربا الغربية من طرف العالم الى قلبه، بعد حملتي كولومبس ودا غاما.

ونشوء أكبر عمليات تبادل تجارية في التاريخ، نمو اقتصادي وعمراني في الغرب والشرق معاً. تجلى في فنون الرسم والنحت وبناء الكاتدرائيات والجوامع والقصور والصروح العلمية والطرقات التجارية. إلا أن الشرق بما فيه الصين والهند والفرس وحتى العثمانيون، لم يستطع مجاراة القفزة الاوروبية الهائلة التي تجلت في العلوم والاختراعات الصناعية، خصوصاً الصناعات العسكرية والبحرية، التي جند لها أهم علماء الرياضيات والفيزياء كايلر ونيوتن وبرينال.

وقد توافق بناء الاساطيل القوية مع طبيعة الغربيين العدوانية والمغامرة، ما ادى في النهاية لسيادة غربية شبه كاملة في القرن التاسع عشر وصولاً للقرن العشرين وحروبه العالمية المدمرة، واحتلال أو انتداب أو استتباع أو استعمار واستيطان وإلحاق جزء كبير من العالم الشرقي بعد انهيار الدولة العثمانية. ومع تحول الولايات المتحدة الاميركية القوة الغربية الاولى على حساب بريطانيا وفرنسا والمانيا، وانتقال صراع الامبراطوريات الى روسيا السوفياتية والغرب الاميركي، دخل العالم في حرب باردة انتهت بانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي.

تجدر الإشارة الى أن الطبيعة العدوانية الغربية تفسر الى حد كبير العنف المطلق الذي استعمل خلال الحروب والاكتشافات والاحتلالات والاستيطان، بما فيها الحروب العالمية.

وبهذا المعنى، فإن ظاهرة هتلر تعبر عن هذه الطبيعة حين تختلط المصالح الاقتصادية الباردة بالعنصرية العرقية الحامية.

فهتلر المقتنع بواقع الجغرافيا الالمانية القاصرة عن التحكم بالاطلسي واستطراداً بالمتوسط، رأى أن عليه أن يتطلع شرقاً لينحت بالدم طريق ألمانيا الحريري الخاص، خصوصاً أن شرق ألمانيا يتألف من دول ومناطق تحتضن مخازن الحبوب الرئيسية في العالم فضلاً عن معادن وآبار نفط مهمة. لذا فإن الهجوم شرقاً على أوكرانيا وجنوب الاتحاد السوفياتي التي يربطه اتفاق عدم اعتداء معها، شكّل بنظر هتلر وبعض مستشاريه الحل الغذائي الضروري ضمن استراتيجية الحل الاقتصادي والسياسي للعنة الجغرافيا، فضلاً عن التخلص من البلاشفة والشيوعيين.

وحين اكتشف هتلر أن حسابات الحقول لم تطابق حسابات البيادر، تشحمت ماكينة الإبادة النازية غضباً فاتكة بالملايين من الروس والغجر واليهود وغيرهم من الشعوب، بعد أن استعبد بعضهم في تذخيم آلته الحربية وخططه الإجرامية. إلا أن الإجرام لم يقتصر على ما فعله هتلر، فلم يقصر ستالين إجراماً في محاولته لردم الهوة الحداثية مع الغرب وإرساء دكتاتورية مرعبة لحماية رأسمالية الدولة والحزب. وهذا ما لم يتخيله ماركس وأنجلز وحتى لينين الذي رفع من شأن ستالين داخل الحزب. كما لم يقصر الآخرون في الانتقام من الشعبين الألماني والياباني، ولنا في قصف برلين الوحشي وغيرها من المدن الألمانية على يد الانكليز، وابادة اهالي ناكازاكي وهيروشيما على يد النووي الأميركي ماك آرثر أبلغ مثال، من دون أن ننسى فظائع الفرنسيين في الجزائر وجرائم بقية الأوروبيين في أفريقيا.

وفي الحقيقة فإن هتلر أسرّ لبعض جنرالاته بأنه يحلم بالقرم كريفييرا للالمان، معلناً أن الحلم الاميركي يجب أن يصبح المانيا واروربيا، وسيحقق ذلك الحلم الشباب الالمان المتفوقون عرقياً على الروس والآسيويين عبر التوغل في أوراسيا والكوكس ووسط اسيا وصولاً للهند وإيران، كما عبر استكمال رومل زحفه في الشمال الأفريقي باتجاه مصر والمشرق العربي لملاقاة الزاحفين شرقاً، في محاكاة ألمانية لما فعل الأوروبيون الغربيون وخصوصاً الإنكليز في القارة الاميركية.

ورغم الاستعلاء العنصري الآري، فقد وجد هتلر الوقت والمصلحة الأكيدة لمداهنة العرب والفرس والمسلمين عموماً، لإيثارتهم بوجه بريطانيا التي خدعتهم، خصوصا في الجزيرة العربية والعراق وفلسطين وحتى في إيران. وعندما اقتضت المصلحة البريطانية مسايرة العرب بإيقاف موجات الهجرة اليهودية، أرسل هتلر أدولف ايخمان الى فلسطين للتعاون مع زعماء اليهود ضد البريطانيين واعداً شتيرن بإرسال يهود المانيا الى فلسطين.


في إيطاليا أشار أنطونيو غرامشي، والذي قضى سنوات طويلة في سجون الفاشية، إلى ظاهرة التوحش، حين دعا المناضلين الطليان إلى الصبر وعدم الإحباط بقوله:

"العالم القديم يتغير والعالم الجديد يتأخر في البزوع وفي هذه الأثناء تسرح الوحوش الضارية". وهو ما فعلته هذه الوحوش لاحقاً حين تابعت فتكها بعشرات الملايين في الحرب قبل أن يتغير العالم وتدخل أوروبا في مرحلة جديدة من الهدوء والتصالح مع الذات وبداية سلسلسة من التغييرات ستؤدي إلى أوروبا غربية متواصلة ومتحاورة بين مكوناتها وصولاً لإنشاء الاتحاد الأوروبي، ومن ثم فتح بعض فئاتها ومنظماتها الأكثر انفتاحاً والأكثر تحرراً قنوات التواصل مع الآخر المختلف على قاعدة الاحترام المتبادل وتوسيع المساحات والمصالح المشتركة، ومع ذلك فقد أعادت حرب البلقان في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي تظهير هذا التوحش حيث ارتكبت جرائم تطهير وإبادة كان الجميع قد ظن بأن أوروبا قد خلت من هذه الممارسات. وتجدر الإشارة إلى أن الثائرين المنتصرين في إيطاليا لم يروا بداً من شنق أحد هؤلاء الوحوش موسوليني وعشيقته وبعض قادة الفاشية في ميلانو سنة 1945 في مشهد لم يخلُ من الوحشية أيضاً ويستعيد درامية الإعدام والسحل في روما القديمة.

ب- رغم تقدم علوم الغرب الإنسانية والحقوقية والاجتماعية، الى جانب العلوم الصحيحة، ورغم مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، فإن الطبيعة العنفية والعسكرية والعدوانية لم تختف تماماً، وقد أقام الغربيون منذ البداية القلاع وطوروا الأساطيل والأسلحة على مر العصور كما رأينا.

لكن الشرق لم يخلُ من العنف والإجرام والحروب القاسية، إلا أن العنف، وخصوصاً في العصر العربي والإسلامي، كان يتوقف عملياً بمجرد استتباب السيطرة في البلد المحتل. أما الصراعات والخلافات الداخلية فكانت بمعظمها تسوى بالدسائس والاغتيالات.

وقد مارس الغربيون أبشع انواع الاستغلال والعبودية والنهب في مراكمة الثروات، خصوصاً في أفريقيا وأميركا، ما أدى لثورات الاستقلال والتحرر، والتي لجأ معظم قادتها للتأميم للخلاص من الشركات الاحتكارية الاجنبية، خصوصاً الشركات البريطانية. حتى إن النظرة الأوروبية الى الشرق الساحر والمنافس والذي لطالما شكل جاذبية اقتصادية وتجارية وثقافية وتنافسية، تحولت لاحقاً مع ازدياد الهوة العلمية والحضارية الى نظرة استعلائية وعنصرية.

ويسجل لليابان، الجزيرة الشبه منسية قديماً في المحيط الهادئ، أنها استطاعت استيعاب واحتواء هذه التحولات الحضارية، حين فشل الآخرون اصحاب السوابق الحضارية التاريخية، مما ساعدها للتحول لقوة احتلال إمبريالية، جبارة ومتغطرسة في المحيط الهادئ والشرق الاقصى.

ومع ذلك فقد أقامت بريطانيا وفرنسا الحليفتان اللدودتان في الشرق نوعاً من التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليلائم مصالحهما، كما ساهم الاوروبيون الغربيون عموماً بكشف كنوز الشرق التاريخية، خصوصاً في مصر والعراق وعموم الشرق الأوسط، حتى إن نابوليون اصطحب معه في حملته على مصر علماء أكثر مما اصطحب من الجنرلات.

إلا أن الخداع والرشوة والوعود الكاذبة وسيطرة الشركات المستحدثة شكلت السمة الرئيسية للتعاطي الغربي، البريطاني خصوصاً، مع قادة وزعماء الشرق في الهند وفارس والبلاد العربية ( the British elevated hypocrisy to the level of diplomacy)..

وشكلت هذه السياسة ستاراً لخطوط "سايكس - بيكو" التقسيمية على خريطة منطقة الشرق الاوسط، والتي ثبتها لاحقاً لقاء كليمنصو وليولد جورج في لندن بعد نهاية الحرب الاولى.

وقد كانت للإمبريالية البريطانية حصة الأسد حيث احتوت إيران وإمارات الخليج، واحتلت عملياً العراق بعد ضم الموصل. كما احتلت مصر وفلسطين، خصوصاً حيفا ويافا، لحماية خطوط قناة السويس الاستراتيجية ولمص دم المنطقة الاسود عبر شبكة الأنابيب التي تضخ النفط من مصفاة عبادان لمرفأ حيفا. ولتسهيل تتفيذ وعد بلفور وتوجيه الهجرة اليهودية من المانيا الى فلسطين بدل توجهها الى بريطانيا. وحصلت فرنسا على انتداب سوريا ولبنان وبعض الامتيازات النفطية في أكثر من مكان، فضلاً عن ما اخذته في الشمال والغرب الافريقي.



الجنرال غورو قال وهو يدوس على قبر صلاح الدين في دمشق بعد معركة ميسلون: "Saladin voici on est la' " ربما في انتقام متأخر لهزيمة الصليبيين في المنطقة.

ت- لم يكن التسامح الديني سائداً في اوروبا، وهو ما يعاكس ما كان سائداً بالاجمال في الحضارات الشرقية. ورغم حمل الغرب للراية الدينية المسيحية في الشرق، الا ان الاقتصاد شكل المحرك الفعلي للسيطرة الغربية، خصوصاً بعد اكتشاف الذهب الاسود وأهميته في الحضارة الحديثة القائمة على انتاج الطاقة. والنفط سيضخ، عبر شبكة من الانابيب تخترق آسيا، حياة جديدة في شرايين طرق الحرير، وسيؤدي لسيادة البحرية البريطانية بعد اعتماد اساطيلها عليه بدل الفحم، كما سيساهم في انتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الاولى.

وقد صرح سناتور فرنسي بعد الانتصار بأن "النفط هو دم الارض وهو دم النصر ايضاً".

وفي فلسطين التي لطالما شكلت هاجساً تاريخياً للغرب المسيحي، أقيمت دولة استيطانية عنصرية لليهود على أراضي المسلمين والمسيحيين، ما جعل ادعاء حماية الأخيرين يشكل نفاقاً صارخاً. وستتأثر سلباً تبعاً لذلك حركة النهضة العربية التحديثية النشيطة والمتأثرة بالأفكار والعلوم ومكونات الحضارة الأوروبية عموما، تحت ضغط متطلبات تصاعد المواجهة مع الكيان الصهيوني ونكبة 1948 التي ستحمل إلى السلطة في مصر أولاً ولاحقاً في سوريا والعراق والسودان وليبيا والجزائر وتونس نخباً عسكرية ستغلّب الأمن وعسكرة المجتمع على الدمقرطة والتنمية. وسيحكم دول الخليج والأردن والمغرب ملوك وأمراء وسلاطين غير دستوريين بمعظمهم، وسينعم لبنان بحد معقول من الديموقراطية والحداثة بسبب تنوعه الطائفي وتشكيله جسراً بين الغرب والمشرق، وللمفارقة رغم إشكالية نظامه الطائفي ولعنة موقعه بين فلسطين وسوريا.

د - لقد سارت عجلة التاريخ ببناه السياسية والفكرية والاجتماعية، حرباً وسلما،ً على المحرك الاقتصادي وتبادل البضائع من كل الانواع بين الشرق والغرب، وهو ما خضع لقوانين العرض والطلب منذ البداية، خصوصاً مع استكمال طريق الحرير. وقد أدت الاكتشافات المذهلة وربط القارات بالطرقات البحرية والبرية الى عولمة كاملة، حيث إن ما كان يحدث في الصين يؤثر على الاسعار في روما والعكس صحيح. كما أن تدفق الذهب من العالم الجديد غيّر حركة الأسعار وطبيعة الانتاج والتوزيع في جميع الأسواق، وهو ما درسه آدم سميث واستفاض فيه كارل ماركس عبر"الرأسمال" بعد نشوء الرأسمالية الصناعية وبداية عصر الثورات بدءاً من الثورة الفرنسية.

وقد شكلت المعرفة منذ البداية، اكتساباً وابتداعاً، انتشاراً أو احتكاراً، عنصراً أساسياً في تطوير أدوات إنتاج المواد الزراعية والصناعية وطرق إيصالها وتوزيعها، وابتكار عناصر وأدوات القوة اللازمة لحمايتها، كما حرص الحكام والأباطرة في الشرق والغرب على إحاطة أنفسهم بالعلماء والمفكرين، حتى إن ابن خلدون نفسه انضم مرغماً إلى خيمة تيمورلنك عند حصار دمشق قبل أن يعود ويختفي في أزقتها بعد أن يخدع تيمورلنك أهلها ويفتك بها وبهم. ويعادل اكتشاف غوتنبرغ للمطبعة، التي سهلت نشر الكتب والمراسلات والمعرفة عموماً والتي حلت محل صناعة النسخ التي أتقنها العرب، عملية اكتشاف الإنترنت والفضاء السبراني، وهو ما طورته الحروب والبحوث العسكرية منذ الحرب العامية الثانية.

وقد نذهل لمعرفة حجم الضبط والتنظيم الذي ساد في الصين وروما قبل ألفيتين، على سبيل المثال لا الحصر، سواء للأشخاص دخولاً وخروجاً وولادة، سواء للبضائع إنتاجاً توضيباً وتسجيلاً وشحناً. وقد نذهل أيضاً لمعرفة كيف بنى الفرس الطرقات والأسواق والمعارض التجارية القديمة وكيف ابتكروا أساليب حمايتها. وقد نذهل حين نعرف حجم وأهمية ودور مكتبات بغداد والاسكندرية ومرصد سمرقند، كما قد نذهل للتقدم الذي ساد الهند والشرق الإسلامي وبلاد الأندلس في مجال الري والصرف الصحي وإدارة المياه عموماً، علماً أن الهند حالياً وللمفارقة تنتج حواسيب اكثر من الكراسي الصحية (flashing toilet) التي يفتقر لها معظم الهنود الفقراء.

ثامناً - صراع الجبارين.

شكل تأميم عبد الناصر لقناة السويس سنة 1956 الصفعة الأهم لبريطانيا بعد تراجع مصالحها في الهند وإيران والعراق، ما جعلها تقوم بعمل عدواني يائس مدعومة من فرنسا واسرائيل (وللمصادفة توجهت الدبابات الروسية في نفس السنة الى بودابست لقمع الانتفاضة الهنغارية). وقد أدى الصمود المصري والالتفاف العربي وانسحاب المعتدين تحت ضغط الولايات المتحدة الى:

أ‌- تسريع انهيار الإمبراطورية البريطانية المترنحة بعد عجز مالي كبير واستكمال وراثتها من الولايات المتحدة الأميركية، وانتقال الصراع العالمي إلى الجبارين السوفياتي والأميركي.

ب - صعود فكرة العروبة وانتقالها من الشريف حسين الى عبد الناصر، وهو ما سيساعد في تحرير تونس والجزائر وفي تغييرات وانقلابات في سوريا والعراق وليبيا واليمن وبلاد عربية أخرى، بعضها مسهل من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "السي آي إي".

ذلك أن فلسطين شكلت قضية العرب الأولى لانهم اعتبروا إسرائيل بمثابة صليبيي القرن العشرين، علماً أن الرد على هزيمة 1967 تحول الى التفاف شعبي عربي حول الثورة الفلسطينية (التي شكلت جاذباً ثورياً عاميًا وأنتي أميركياً) مترافق مع تحول سياسي فكري من القومية نحو الأحزاب اليسارية والماركسية وإن بنكهة عربية، مع إعادة ظهور للحركات الإسلامية بتشجيع سلطوي عربي وغربي احيانا، بعدما أضعفها صعود عبد الناصر والمد العربي القومي عموماً.

ج - نظرياً، يجب أن يكون ميدان الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي حامياً في برلين المشطورة نصفين بجدار فعلي وفي باقي اوروبا المشطورة بأحلاف عسكرية وستائر إيديولوجية. إلا أن حماوتها ذهبت كالعادة شرقاً، إلى طريق الحرير القديم في وسط آسيا والى شرقها الاقصى ايضا (الذي شهد الحرب الكورية وهزيمة اميركا في فيتنام على أنغام التنافس الصيني الروسي ايضاً)، كما إلى الشرق الاوسط الذي ازدادت أهميته مع ظهور المخزون الهائل للنفط والغاز ودوره في تزييت عجلة الحياة على الكوكب وحتى خارجه مع انتقال المبارزة الى ميدان الصواريخ الباليستية وعالم الفضاء الأوسع عند انطلاق مركبة "سبوتنيك" سنة 1957.

د - مع أن شعار أميركا هو حماية الديموقراطية والعالم الحر من الشمولية والتوتاليتارية التي مثلها الاتحاد السوفياتي، الا انها تصرفت بطريقة براغماتية بحسب مصالحها، ودعمت بالإجمال الأنظمة العسكرية والديكتاتورية المقنعة والمباشرة. فساهمت بقلب الإصلاحي مصدق في ايران النفطية ودعمت السافاك وإجراءات الشاه القمعية، كما دعمت الانقلابات العسكرية في أندونيسيا وتركيا وباكستان. مع العلم أنها ساهمت في إنجاح انقلابات عسكرية "بعضها ثوري"! محولة بار السان جورج في بيروت الى وكر مخابرات "السي آي إي" في الشرق الأوسط.

عملت أميركا أيضاً على إضعاف حركة عدم الانحياز التي ساهمت بالقضاء على الاستعمار، ودعمت الأنظمة الشبه أوتوقراطية والمنظمات الاسلامية، حتى انها قادت جانباً من الحرب "المقدسة" في أفغانستان ضد السوفيات "الكفرة" قبل أن تكتوي بنار القداسة في "غزوة" الأبراج الإرهابية.

تابعت أميركا سياسة الاحتضان الغربي لإسرائيل بشكل أقوى، وشكل دعمها عاملاً أساسياً في هزيمة العرب سنة 67 وفي استيعاب نجاحات حرب 73 العسكرية وقلب بعض نتائجها عسكرياً وسياسياً، كما في هندسة السياسات والحروب الإسرائيلية على منظمة التحرير الفلسطينية وفي تأجيج الحروب الأهلية في لبنان وفي أكثر من مكان.

وشكل النفط هاجساً رئيسياً للغرب، خصوصاً أن التأميم وتشكيل "أوبك" ساهما الى حد كبير في تخفيف الهيمنة الإمبريالية عليه، مما أدى الى تحديث ونهضة عمرانية في البلاد المنتجة، رافقه فساد وإهدار ومحسوبيات في غياب الديموقراطية والشفافية والمحاسبة. وامتص شراء الأسلحة والتكنولوجيا النووية ما تبقى من الاموال كما حصل عند الجارين اللدودين إيران والعراق. ومع ذلك فالعرب المنتجون بما فيهم السعودية، استعملوا النفط أحياناً، سلاحاً لتخفيف الضغط في الحروب مع إسرائيل، مما دفع الرئيس نيكسون لأخذ إجراءات اقتصادية غير مألوفة، إلى جانب إطلاقه أبحاث تنويع مصادر الطاقة، حتى لا يقف الأميركيون بالطوابير أمام محطات البنزين، كما حصل في اوروبا واليابان وكثير من الدول.

ويقول فرنكوبان: "في القرون الوسطى بادل الأوروبيون المتخلفون العبيد بالمنتوجات العربية والإسلامية وغيرها من المنتوجات والمواد الشرقية، بينما في القرن العشرين بادل المسلمون المتخلفون الذهب الأسود بالمنتوجات الأوروبية".

مارس الجباران سياسة الدعم الاقتصادي والاحتواء لحكام دول طرق الحرير والشرق الأوسط وصولاً لأفريقيا وأميركا الجنوبية، حتى إن بعض الحكام لعب على الحبلين على سبيل المصلحة أو تفادياً للأذى. وقد شكل الثمن الاقتصادي الذي دفعه السوفيات بدعمهم للأنظمة الأنتي - أميركية كما بالمنافسة في حرب النجوم الذي أطلقه ريغان، سبباً رئيسياً في انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي الذي أطلق مساره غورباتشوف بالبروستريكا. وكانت له نتائج جيوبوليتيكية دراماتيكية في آسيا وأوروبا، حيث تشكلت دول جديدة وانهار حلف وارسو وتوسع الاتحاد الاوروبي.

كما أطلق نشوء الدولة الاسلامية في إيران دينامية جديدة ضخت دماء في شرايين الأحزاب الإسلامية السنية والشيعية، قابلها تشدد وهابي في السعودية. وفي النهاية فإنها أيقظت الفتن عبر استحضار الانقسامات المذهبية القديمة، خصوصاً حين بدأت بتصدير نموذجها الأيديولوجي ومد مخالبها إلى الدول العربية، ما سيؤدي لحروب وصراعات وفتن كثيرة، ستحول هذه البلاد إلى مختبر عسكري وجيوسياسي إقليمي ودولي. فحرب العراق- ايران المترافقة مع الحرب في أفغانستان، ثم كارثة احتلال الكويت من ديكتاتور مهجوس بخليط من البارانويا والميغالامونيا، ستنقل المنطقة الى مرحلة أخرى بعد حرب تحرير الكويت التي أجيزت دولياً، حيث ستتعزز رغبة الولايات المتحدة، خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، من أجل السيطرة على طرق الحرير القديمة وأحزمتها الاقتصادية.

ه - تداعيات غزوة القاعدة للولايات المتحدة في 11- 9 -2011

أدى هجوم تنظيم القاعدة على رموز القوة الاقتصادية والعسكرية في الولايات المتحدة إلى إطلاق يد الرئيس بوش ومهووسي الإدارة، أمثال تشيني ورامسفيلد، في استكمال عملية السيطرة على قلب العالم ومفارقه الرئيسية بدأ باحتلال الولايات المتحدة لأفغانستان التي تحتض بن لادن وقيادة القاعدة، ثم انتقل في 2003 إلى قصف وتدمير واحتلال العراق وقتل صدام حسين، بعدما أدى الحصار المفروض على العراق في أعقاب حرب "تحرير الكويت" الى هلاك ملايين العراقيين وقد استعمل جورج بوش وصديقه الإنكليزي طوني بلير ذريعة كاذبة ابتدعتها "السي أي إي" وسوقها كولن باول، وهي وجود أسلحة غير تقليدية في العراق كحجة للحرب عليه.

أدى احتلال العراق وحل الجيش وحزب البعث وإدارات الدولة إلى نتائج كارثية داخل العراق وخارجه، حيث دخل العراقيون في حروب أهلية مذهبية وإثنية، رافقها إرهاب وتطرف من كل الضفاف. ورافق الحرب على العراق أيضاً انتعاش إيراني وتواطؤ ضمني إيراني/ أميركي (وحتى في عز أزمة الرهائن الأميركيين والحرب العراقية الإيرانية حصل تعاون اسرائيلي إيراني في بداية الحرب، تبعته فضيحة ايران غيت، وهو ما أدخل بارانويا الحصار والمؤامرة الى عقل الدكتاتور العراقي وساهم لاحقاً بتشجيع ضمني أميركي في كارثة احتلال الكويت).

أدت الحرب على العراق أيضاً الى إحباط عربي واسع وارتفاع في منسوب المظلومية السنية والعربية، خصوصاً أنه سبقها استغلال شارون للجنون الاميركي للانقضاض على الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحصار أبو عمار ورفاقه في المقاطعة في رام الله، وتدبير اغتياله في نهاية المطاف، بالتلازم مع بناء جدار الفصل العنصري في فلسطين. وطبيعي أن يدير شارون الأذن الطرشاء لمبادرة الأرض مقابل السلام التي أطلقها العرب من بيروت سنة 2002 في مؤتمر قمة صودف انعقاده مع حصاره لابي عمار، والذي أكمله جماعة الوصاية السورية بمنعه من مخاطبة المؤتمر بحجج واهية.

هكذا دخلت المنطقة التاريخية ذات الفوالق الجيوسياسية المتعددة، والتي تنام على صفيح ساخن ومخزون استراتيجي هائل من الغاز والنفط مرحلة من التحولات العميقة في القرن الحادي والعشرين. وستأخذ هذه التحولات أشكال انتفاضات سلمية غير مسبوقة من اجل الحرية والخبز والديموقراطية في العالم العربي وحتى في إيران المزهوة بالخسائر العربية والمزايدة بشعاراتهم ضد إسرائيل، بعدما شهدت اوروبا الشرقية والبلقان وجمهوريات الاتحاد السوفياتي في السهوب والكوكس انتفاضات وتغييرات وحروب بدأت بتحطيم جدار برلين.

مع العلم أن المصالح الاقليمية والدولية ستساهم بإرباك هذه الانتفاضات، بدعم الأخوان المسلمين أولاً ثم دعم العسكرة لاحقاً كما حصل في مصر، وفي تحويل بعضها إلى حروب أهلية كما يحصل في سوريا وليبيا واليمن، خصوصاً في مناخ من الصراعات المذهبية والنزاعات العشائرية والقبلية الما قبل حداثية، والتي فشلت الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية بإيجاد الحلول لها.



الخلاصة: طريق الحرير ينهض من جديد

يقول ألان بريفيت في كتاب صدر له في 1972 "حين تنهض الصين يهتز العالم"

قلة ممن قرأوا الكتاب آنذاك، صدقوا أن صين ماو تسي تونغ ستنهض اقتصادياً وتهز العالم.

وأنها ستستعيد الأحلام القديمة، فتصبح بضائعها موجودة في كل أنحاء الكرة الارضية، وينتشر سائحوها في شوارع لندن وباريس ونيويورك لشراء الماركات الفخمة (التي وربما لسخرية القدر، فقد صنع بعضها في الصين، أو في احدى دول نمور اسيا، التي اضيف إليها أخيراً نمر فيتنامي) بعدما اعتادت هذه الشوارع الانتشار السياحي الياباني والكوري اضافة إلى الأميركي والخليجي، علما انه في كل من هذه المدن تكون في القرن الماضي حي صيني خاص يسمى "تشاينا تاون".

فأن تفكر الصين ببعث طريق الحرير الذي شكل رئة التبادل التجاري بين الشرق والغرب في التاريخ، كما أعلن الرئيس تشي في 2013 من المانيا، فهذا يعني انها بلغت مرحلة تنافسية تجعلها تبادر وتساهم في إعادة وصل البلدان والقارات بطرقات وسكك حديد وأنابيب ومرافئ، لتسهيل حصولها على النفط والغاز والمعادن والمواد الضرورية لصناعتها المزدهرة وإرسال فائضها الضخم للأسواق المتعطشة للمواد الاستهلاكية المنافسة، بما فيها الحواسيب والهواتف الذكية. وإذ ساعدت الصين بلداناً كثيرة واستثمرت في بناء الطرقات والبنى التحتية لتسهيل مرور البضائع والمواد في الاتجاهين، فإنها تفكر حتى في بناء نفق من 200 ميل (أو جسر) في مضيق بيرنغ حتى يذهب القطار من الصين الى كندا عبر روسيا وألاسكا وصولاً لقلب الولايات المتحدة.

وان تفكر الولايات المتحدة في طرق الحرير، في آسيا الوسطى والخليج وفي دول الاتحاد السوفياتي السابق، فلأنها تدرك أهمية هذه الدول التي تختزن الغاز والنفط والمعادن المستعملة في صناعات التكنولوجيا الناعمة، كما تختزن الأورانيوم وغيره من لوازم الطاقة النووية، وبعضها يختزن مناجم ذهب واسعة تضاهي مناجم افريقيا الجنوبية، فضلاً عن اهمية هذه الطرقات في التجارة العالمية في المنطقة التي يعيش فيها المليارات والتي تنمو صناعاتها واقتصاداتها بسرعة مذهلة. ويجب ألا ننسى أهمية هذه الطرق بإيصال الاسلحة والذخيرة الى الجبهات التي أدارتها وما زالت تديرها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة.

وهذا ما استخلصه الرئيس أوباما في 2012 حين قال: نحن نمر في مرحلة انتقالية، فقلب العالم يتغير ويتجه من أوروبا نحو "آسيا- باسيفيك"، وعلينا أن نتغير معه لنبقى في الطليعة. وهذا ما أكدته وزارة الدفاع البريطانية بالقول: قلب العالم يتجه من جديد نحو الشرق بعد ان يمر بمرحلة من الغليان والتوتر والازمات وتصاعد في حدة الايديولوجيا، فضلاً عن التغيرات المناخية وأخطارها الجمة على البيئة والإنسان.

وأن تدخل روسيا في التنافس على الحصص بعدما نهضت "عسكرياً" مع القيصر بوتين، فهذا بدهي أيضاً، علماً أنها متخلفة اقتصادياً وضعيفة مالياً، لولا مبيعات الأسلحة والصناعات المرتبطة بالفضاء، فضلاً غنى مواردها الطبيعية وتنوعها.

فروسيا سلخت القرم عن أوكرانيا وتتلاعب بشرقها. وأوكرانيا مهمة استراتيجياً، لأنها تحتضن مع روسيا البيضاء وبلاد الكوكس مخزن حبوب هائلاً ومناجم فحم ضخمة، وتشكل طريقاً أساسياً لوصول الغاز وغيره من المواد الى المانيا وباقي اوروبا. كما أن تدخل روسيا العسكري في سوريا وتعاونها المزدوج مع ايران واسرائيل شكل إعلاناً صارخاً لعودتها الى نادي الأقطاب. علما انها انضمت لمنظمة شانغهاي للتعاون والتي تتوسع لتصبح اتحاداً يشبه او أهم من الاتحاد الاوروبي .حتى إن تركيا نفسها تعمل للانضمام الى المنظمة المتألقة بعد يأسها من الاتحاد الاوروبي، علما أنها تتجه للتعاون مع روسيا في مجالات كثيرة بما فيها الصناعة العسكرية، دون أن تقطع مع أميركا والحلف الأطلسي. فالعالم يتغير، وإن كانت العلاقات بين الدول والأحلاف الجديدة لم تتبلور بعد، رغم انهيار حلف وارسو واهتزاز واقع الحلف الأطلسي ونشوء تجمعات ومنتديات اقتصادية كثيرة وظهور حقائق جيوسياسية جديدة في العالم. ويرسم منتدى دافوس بعض مؤشرات الحراكات الاقتصادية الجديدة.

وقد يفيد الإشارة الى بعض سمات المرحلة الانتقالية التي تجري فيها هذه التحولات الكبرى.

أ- تترافق مرحلة العولمة الجديدة وثورة الاتصالات وعالمها الافتراضي وتداعياتها على الاقتصاد والأمن والاجتماع، مع ازدياد في الشعور القومي الشعبوي. ويظهر ذلك في نشوء ونمو الأحزاب والمنظمات اليمينية والعنصرية في الغرب الاوروبي والأميركي وفي العالم عموماً (وقد وصل شعبوياً كترامب للمنصب الاهم في العالم بعدما شغله رئيس أسود، وانتخب يميني متطرف في البرازيل بعد ماسح الاحذية اليساري ويميني قومي في الهند بعد ورثة افكار المهاتما غاندي وانتخب في هنغاريا أوربان الذي يدعو لأوروبا الصافية مسيحياً) ويترافق ذلك مع تراجع في وزن الاتحاد الاوروبي الذي شكل أملاً كبيراً لشعوب اوروبا ولغيرهم من الشعوب للخلاص من الحروب ولتشكيل قوة اقتصادية بعد انهيار الامبراطوريات الاوروبية. وتشكل "بريكسيتً تحدياً كبيراً للقارة العجوز التي تترنح تحت ضربات الحلفاء والخصوم في آن، خصوصاً أن اليمين المتطرف والشعبوي والمشكك في جدوى الاتحاد الأوروبي وصل للسلطة في هنغاريا وإيطاليا وتوسع في فرنسا والنمسا وحتى في ألمانيا. ومع ذلك، فإن أوروبا ما زالت تشكل وجهة اللجوء المفضلة للمقهورين والحالمين من أفريقيا وآسيا، حتى إن رئيس بلدية لندن صديق خان هو مسلم من أصول باكستانية مما يؤشر لحجم التسامح المكتسب في أوروبا. وهذا، ويا للأسف، يزيد "في مناخ الأزمات الاقتصادية" من انتعاش العنصرية والانعزالية، خصوصاً مع تصاعد الإرهاب وتنامي موجات الإسلاموفوبيا ومعاداة الهجرة.

وفي الولايات المتحدة، التي قامت على الهجرة أصلاً، يعمل الرئيس ترامب على بناء جدار بوجه المهاجرين الملونين الفقراء، ويأخذ إجراءات ضد القادمين من بعض البلدان المسلمة، بذريعة الحرب على الإرهاب، متغاضياً أو متساهلاً مع الإرهاب العنصري الأبيض وهو الأوسع والأخطر داخل البلاد. ورغم التباسات المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة والدعم الغربي عموماً لإسرائيل، فإن الأنتي - سامية تزداد أيضاً.

وطبيعي أن يزداد الشعور القومي والشعبوي والطائفي في الشرق، غير الديموقراطي بمعظمه، والذي يعاني من نقص في الحريات وفي قضايا الأقليات وحقوق الإنسان عموماً، وهو ما نشهد بعضاً منه حتى في دول ديموقراطية وشبه ديموقراطية كالهند وباكستان وبنغلادش. وشهدت سري لانكا أخيراً إرهاباً داعشياً فظيعاً ضد الأقلية المسيحية وسبقته موجات اعتداءات بوذية للأقليتين المسلمة والمسيحية، وهي بالكاد خرجت من حرب أهلية مدمرة، بينما قام الرئيس الفيليبيني دوارتي بموجات قتل واسعة تحت ستار محاربة المخدرات. وشهدنا تطهيراً عرقياً في كمبوديا وأخيراً في ميانمار، وتطهيراً مذهبياً في بعض مناطق سوريا وتدمير مدن وقرى في تشيشنيا الروسية. وحتى في دولة عريقة ديموقراطياً كاليابان، فقد كشفت محاكمة كارلوس غصن عيوباً كبيرة في النظام القضائي الياباني وهذا يؤشر على ضعف في دمقرطة المجتمع الياباني، كما كشفت محاولة الانقلاب في تركيا وإجرءات اردوغان الشعبوية والقمعية في أعقابه حدود الديموقراطية التركية.

أما في الصين، فيترافق التحرر الاقتصادي وحركة العمران والتحديث الهائلة مع مزيد من القمع السياسي، خصوصاً لبعض الاقليات المسلمة كالإيغور والكازاك، حتى ان هناك عودة لكمبات التجميع وأساليب الثورة الثقافية الماوية وإن بنسخة محدثة، حيث يعزل الملايين عن أهاليهم، ضمن عناوين محاربة "إيديولوجيا" الإرهاب والتطرف الإسلاميين.

والصين ساهمت أصلاً في نشوء هذا التطرف حين أرسلت مقاتلين "إيغور" لقتال السوفيات في افغانستان، علما أن مناطق الايغور في غرب الصين تشهد انتقالاً لشركات صينية وعالمية، لتدني أكلاف التشغيل من جهة ولقربها من خطوط المواصلات الحريرية من جهة أخرى.

على كل فقد شكلت العنصرية والعدوانية والمظلومية أسباباً لتصاعد التطرف والارهاب الديني والعرقي بموازاة إرهاب الدول والأنظمة، وهو ما نشهد تصاعده في الشرق والغرب وفي كل مكان.

كما تشهد مرحلة التحولات الكبرى مزيداً من إجراءات الحماية الاقتصادية - الأميركية المعاكسة للتجارة الحرة، والمفرطة في استعمال سلاح الاقتصاد، وهو ما يظهر في الحرب التجارية مع الصين، وفي توسيع العقوبات الاقتصادية على روسيا وكوريا الشمالية وإيران، وفي الضغوط الإقتصادية على المكسيك وكندا وتركيا وحتى على الحلفاء الأوروبيين، كما تظهر في ابتزاز دول الخليج وفي الضغط المالي على الفلسطينيين ومؤسسات الأمم المتحدة التي تشق عصا الطاعة الأميركية.

ب - قد تبدو الدول الممتدة على طول خطوط الحرير القديمة في سهوب آسيا وجنوب روسيا غريبة ومتخلفة بالنسبة للمواطن الغربي، كما أن معظمها تحكمه دكتاتوريات عائلية مقنعة يشبه بعضها عائلة العراب دون كورنيالي، ومع ذلك فهي دول استقرت بعد ثورات وتغييرات جيوسياسية عدة، وتعوم معظمها على بحر من المواد الطبيعية الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد والتكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن أنها تشهد نمواً عمرانياً قياسياً وتقيم فيها كبريات الدور والماركات فروعاً لها. وقد نتفاجأ بحجم وفرادة الصروح الفنية والسياحية والرياضية والدينية والتجارية في عواصم وحواضر هذه الدول، وبعضها يضاهي ما بني في دبي وابو ظبي والدوحة وعمان واسطنبول وبيروت. ودول الخليج تتغير وتتحول حتى بنمط الحياة الاجتماعية وبالوظيفة الاقتصادية بما يتجاوز البرميل والأنبوب. فدبي تحولت إلى مدينة عالمية والكويت تتقدم ديموقراطياً واجتماعياً، وحتى السعودية الأكثر محافظة بدأت تخفف قبضة التشدد الاجتماعي وهي تخطط لبناء مدينة نيوم الاقتصادية على البحر الأحمر ضمن خطة 2030 الاستراتيجية، وهي أول مدينة رأسمالية في العالم تمتد على مساحة 26500 كلم مربع في أراضي السعودية ومصر والأردن، وستقيم جسر الملك سلمان الذي يربط السعودية بمصر، كما ستستثمر في مجالات سياحية وثقافية واعدة، بما يتجاوز دورها الديني كحاضنة لمكة المكرمة والمدينة المنورة. وحتى مصر المأزومة اقتصادياً بنت أعرض جسر في العالم. وقد نفاجئ بحجم حركة الطيران السياحي والتجاري بين هذه الدول والصين والذي يتجاوز الحركة في أوروبا نفسها.

وأفغانستان التي تبدو غريبة لدرجة السوريالية، فهي فائقة الأهمية استراتيجياً، رغم ندرة مواردها الطبيعية الأساسية، مع العلم أنها صدرت في الماضي الليمون وازهار التوليب من حدائقها الغناء وبساتينها الوفيرة الى اوروبا، وتصدر حالياً الافيون والخشخاش اللازمين في بعض المعالجات الطبية وتكاد تسبق كولومبيا والمكسيك في تصدير المخدرات، ولطالما كانت هولندا وجهة التصدير المفضلة.

تجدر الإشارة الى ان الهند النووية، والمتقدمة علمياً وصناعياً، ولكن الفقيرة والمتأخرة اجتماعياً، تحاول النفاذ بمنتوجاتها المصنعة الى اسواق الدول القريبة من طرق الحرير الجديدة، كما عبر تجمّع "البريكس" الذي يضم اليها روسيا والصين والبرازيل وأفريقيا الجنوبية، والذي يبدو ورغم قوة جميع أعضائه، وكأنه يجمع من كل وادي عصا.

والهند تصدر مع باكستان النووية أيضاً وبنغلادش وسري لانكا، ومع الفيليبين واليمن واثيوبيا، ملايين العمال والعاملات إلى بلدان الخليج العربي الغنية في مشهد يبدو، في بعض شروطه، وكأنه تصدير للرقيق لجهة ضعف الأجر بالقياس لحجم ونوع العمل وظروفه. ويؤشر الاتجار بالبشر المرتبط باللاجئين إلى فظاعة مزدوجة، إذ إنه يظهر حجم اللجوء الناتج من الحروب والأزمات في من جهة، وضعف الاهتمام الأممي الذي يصل أحياناً إلى حد الازدراء أمام مأساة إنسانية مرشحة للارتفاع مع تطور التكنولوجيا وتضاؤل فرص العمل خصوصاً في البلدان الفقيرة، فضلاً عن توسع قوس الأزمات والتوترات وصعوبة الحلول السياسية. كما أن الدكتاتور الكوري الشمالي المنفوخ بينما شعبه يجوع يصدر الصبايا الكوريات إلى الصين للترفيه عن البرجوازية الصينية المنفوخة جيوبها، بينما تنافس كوريا الجنوبية بمنتجاتها المصنعة العالية الجودة الصين وأميركا واليابان، وتتابع سنغافورة وماليزيا وتايوان وحتى أندونيسيا تقدمها في شرق آسيا.

ج- ما يجري في طهران وبغداد ودمشق والقدس وصنعاء وفي كابل هو جزء من الصراع الكبير في قلب العالم القديم وروحه الديني والفكري والتاريخي، ومشهد سرقة متحف بغداد أمام أعين الغزاة الأميركيين لا يختلف عن مشهد تدمير داعش للآثار في أور وتدمر والموصل، ومشهد تدمير طالبان لتماثيل بوذا في باميان، كما مشهد تدمير الجوامع والكنائس والآثار التاريخية في القصف الروسي والأميركي والإيراني في العراق وسوريا. وإذا أضفنا سرقة وتدمير التراث في اليمن من الحوثي وراعيه الإيراني وما تقوم به إسرائيل بتشجيع وصمت دولي في القدس وعموم فلسطين، نرى أننا أمام كارثة غير مسبوقة في قلب التراث العالمي.

وبالنظر لما تختزنه منطقة الشرق الاوسط والمنطقة العربية من خيرات وإمكانيات وما تعانيه شعوبها، فإن الانتفاضات الربيعية ستستمر بشكل أو بآخر كما يحصل في الجزائر والسودان، على رغم كل الصعوبات والخيبات والحروب والتدخلات من القوى الإقليمية والدولية.

مع العلم أن أميركا (وبالطبع روسيا) لا يهمها الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان، بقدر ما يهمها استقراراً قائماً على المصالح الاقتصادية الباردة، من هنا تفضيلها الإجمالي للتعامل مع العسكر والديكتاتوريات المقنعة، خصوصاً بعد انتخاب الرئيس ترامب. علماً أن أحداً لم يعتقد ان الرئيس أوباما كان يفكر في مصير الديموقراطية في سوريا أو في مصير مئات الآلاف الذين سيقتلون أو يهجرون او يشوهون، حين أبرم الاتفاق الكيميائي مع بوتين والاتفاق النووي مع ايران بالعاً جميع خطوطه الحمر، ذلك أن الهاجس كان دائماً تأمين مصالح اميركا واسرائيل. وهذا ما يتابعه ترامب الشعبوي، وإن بطريقة استعراضية واستعلائية وفظة وحتى كاريكاتورية، ولكن المضبوطة بالإجمال تحت سقف الاستبلشمنت الأميركي، رغم إضافة دبلوماسية حافة الحرب إلى العقوبات القاسية مع إيران لتطويعها وجلبها للتفاوض بعدما انتفخت بأحلامها الإمبراطورية وبأنيابها الإقليمية المدججة في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

وترامب معجب بالزعماء الشعبويين وبالديكتاتوريين ككيم جونغ أون وبوتين وشي جينيغ كما بأردوغان وأوربان رغم تنمره عليهم جميعاً. والولايات المتحدة الاميركية لا ترغب في تكتلات اقليمية قوية ومستقلة. لذا فمن الطبيعي أن تعرقل أي تكتل عربي سياسي واقتصادي فعلي، وقد عملت على مزيد من إضعاف مؤسسة الجامعة العربية المأزومة أصلاً. ويأتي في هذا السياق، ابتزاز وإشغال وإرباك حلفائها المفترضين في مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمهم المملكة السعودية، بعد إضعاف مصر والحرب على العراق والتعامل الملتبس مع الربيع العربي.



ويمكن أن ننهي بالقول:

موارد هائلة وضعت في حزام واحد ورؤية واحدة للطريق طرحها الرئيس شي والذي يخطط لصين المستقبل. وفي خضم ما يجري من تغييرات وتهديدات وصراعات ثقافية ودينية وإثنية، لم يعطها الغرب الوقت الكافي والضروري لفهمها، تقوم الطرق والشبكات في العمود الفقري لآسيا. وكما كانت الإمبراطورية البريطانية تسيطر على طول الطريق من أقصى الغرب الى أقصى الشرق بواسطة الأساطيل والجيوش والشركات في القرن التاسع عشر وتابعت الولايات الولايات الأميركية المهمة بأساليب شتى، ها هي الصين تخطط للسيطرة على الطرقات التجارية بقفازات ناعمة، ناقلة التحديات مع الغرب القوي ومع اليابان ومع الآخرين إلى مستويات جديدة، خصوصاً أنها دخلت الميدان الفضائي أيضاً وتسعى لتحديث وتعزيز جيشها المتخلف نسبياً، علماً أن القارة التي أنتجت النهضة العلمية والتصنيع والحداثة وأقامت الاتحاد الأوروبي تترنح تحت تأثير دومينو الصين روسيا وأميركا مما يجعل النظام الدولي الجديد أكثر إثارة وأكثر غموضاً.

وبكلمة أخيرة: إن طرق الحرير تنهض من جديد.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم