الأحد - 05 أيار 2024

إعلان

ميريل ستريب من روما: يتعذّر تمريني والممثل أيضاً كاتب الفيلم

ميريل ستريب من روما: يتعذّر تمريني والممثل أيضاً كاتب الفيلم
ميريل ستريب من روما: يتعذّر تمريني والممثل أيضاً كاتب الفيلم
A+ A-

كانت لحظة تاريخية الخميس الفائت، مجيء ميريل ستريب إلى روما لعرض "فلورنس فوستر جنكينز"، أحدث فيلم شاركت فيه من إخراج البريطاني الكبير ستيفن فريرز، السينمائي الذي لم يكن أدارها من قبل في أيٍّ من أفلامه. سارت ستريب على السجّادة الحمراء تحت حبّات المطر وهي ترتدي فستاناً حريرياً يُظهر مفاتن سيدة أنيقة على مشارف السبعين. كانت لستريب صولات وجولات في المدينة الأبدية التي ترتدي هذه الأيام ألوان الخريف الدافئة. معجبوها، وهم من الأعمار كافة، كانوا يركضون خلفها للفوز بأوتوغراف أو صورة سَلْفي، وبعضهم ينهار بكاءً إذا طاش سهمه. ليوم كامل، كانت ستريب الـ"ميغا ستار" التي هتفت لها قلوب الجمهور الروماني، فجاء إلى أوديتوريوم الموسيقى بالآلاف لملاقاتها. بدايةً، عقدت ستريب، مع تلك الابتسامة الرقيقة التي تعلو وجهها، مؤتمراً صحافياً، ثم كان لها لقاء حاشد مع جمهور "عيد روما السينمائي" (١٣ - ٢٣ الجاري). طوال ساعة، استعرضت ٤٠ سنة من الوقوف قبالة الكاميرا، بحيث لم تترك دوراً نسائياً لم ترسمه بروحها الشابة ونبضات قلبها المتسارعة ودمعتها السخيّة. مع ذلك، لا تزال في قلبها أمنية لم تحققها: العمل في إدارة مارتن سكورسيزي. في أيّ حال، هذا ما صارحتنا به خلال هذا اللقاء الذي سيسّجله التاريخ نظراً لاستقبال أشبه باستقبال الأباطرة حظيت به ممثلة كبيرة حفرت اسمها في أعمال كبيرة، منها مثلاً "خيار صوفي" لآلن ج. باكولا أو "خارج أفريقيا" لسيدني بولاك أو "جسور مقاطعة ماديسون" لكلينت ايستوود، كلها أفلام شاهدنا منها مقتطفات، وكان صريخ الجمهور وهيصته وتصفيقه تصل إلى أعلى مستوى مع إشعال النور مجدداً في الصالة بعد انتهاء المقتطف.



من الحبّ ما أبكى.


انطلق اللقاء مع مشهد من "صائد الغزلان" (١٩٧٨) لمايكل تشيمينو الراحل هذا الصيف. كان هذا ثاني فيلم تشارك فيه ستريب، ولكن الأول لجهة الأهمية. وقبلت به كي تبقى بالقرب من حبيبها جون كازال المحتضر آنذاك بعد اصابته بالسرطان. ثلاثة عمّال يلتحقون بالجيش الأميركي في فيتنام ويعودون منها بندوب نفسية وجسدية لا تُمحى. من هؤلاء الثلاثة: مايك (دو نيرو)، الذي يحبّ ليندا (ستريب) بالسرّ. أحدث الفيلم صدمة آنذاك في بلاد كانت تخرج لتوها من أشنع حروبها، وشرّع باباً لممثلتنا التي كانت انطلقت مسيرتها قبل عام مع "جوليا" لفرَد زينيمان. المشهد المعروض جمعها بدو نيرو الذي كان يضطلع أيضاً بواحد من أول أدواره. "كم كان جميلاً!"، تقول ستريب مذهولةً وهي تعيد اكتشاف دو نيرو على الشاشة الضخمة خلفها، المكلّفة حملنا إلى ضفاف الذاكرة السينمائية. تنطق الستّ بكلمة "جميل" وعلى لسانها طعم الحنان والحسرة، حنان لممثل أغرمت به العام ١٩٨٤ في فيلم أولو غروسبارد، وحسرة لشباب لن يعود. فوجوه الماضي أصابها اليباس اليوم، إلا أنّ عينيّ ستريب لا تزالان تنطقان بكلّ أنواع الأسئلة. وجهها الملائكي يوحي بأنّ الأقنعة التي وضعتها طوال أربعة عقود حمتها من الزمن وأفعاله المستنكرة. فعبارة "كم كان جميلاً!" العفوية تعني أيضاً في مكان: "كم كنتُ جميلة!". ذلك أنّ الاختلاف بين الأمس واليوم واضحٌ للعين، بين تلك التي تطلّ على الشاشة بكامل طموحها ورغبتها في النجاح من جانب، وتلك التي تجلس أمامنا، نصف جدّة ونصف مهرّجة، لم يعد لها شيء تثبته وحتماً ممثلة من الصنف النادر. تمازح ستريب قائلة: "سعيدة لرؤية هذا المشهد بعد مرور ١٥٠ عاماً عليه". ثم تروي بالتفاصيل كيف تمّ التقاط مَشاهد "صائد الغزلان". "كنا نصوّر بمزرعة في وست فرجينيا، نصوّر بسرعة. كان روبرت يقف أمامي ببدلته الكحلية. كنتُ أتصببّ عرقاً. هو لم يكن منزعجاً البتة. أتذكّر فيلموس (زيغموند - مدير التصوير الذي رحل في مطلع هذه السنة)، ثم مايكل (تشيمينو) الذي كان شبه عارٍ، يتجول ببوكسر إيطالي. في المقصورة التي كنّا نصور فيها، كدتُ أختنق".



ستريب خلال اللقاء الحاشد مع الجمهور.


من خبرية إلى أخرى، وصلنا إلى سؤال ردّت عليه ستريب بالقول: I am untrainable. أي: يتعذّر تمرينها. "شقيقي هنا معي، ويستطيع أن يروي لكم. أحدٌ لا يستطيع أن يفرض عليّ شيئاً. ولكن، مهلاً، أحبّ الذين عملتُ وإياهم. أحبّ السينمائيين الذين أسندوا إليّ الأدوار. تعاملتُ مع أكثرهم أهمية، من باكولا إلى بولاك... والآن بعد رحيل بعضهم، أشعر أنّ الكلمة الأخيرة لي. أنا مدين لهؤلاء السينمائيين بكلّ شيء". وتخبرنا ستريب انه في كلَي الفيلمين، "صائد الغزلان" و"كرايمر ضد كرايمر" (قصة صراع بين زوجين من أجل الطلاق استحقت عنه "أوسكارها" الأول - دور ثانٍ)، كانت تكتب حواراتها بنفسها. في "كرايمر ضد كرايمر"، طلب المخرج روبرت بنتون منها ومن شريكها في التمثيل داستن هوفمان أن يكتب كلّ واحد منهما نسخة للحوارات في مشهد المحكمة، وهذا ما حصل. "طبعاً، نسختي أنا هي التي اعتُمِدت"، تشدّد ستريب. بهجة طفولية تعلو وجهها وهي تستعيد هذا الفصل من تاريخها. فهكذا "تحديّات" في حياة الممثل يبدو أنّها تقوّي شخصيته وتدفعه إلى الأمام. تفصيل صغير ينعش ذاكرة ستريب، فنعود إلى زمن اختيار تشيمينو لها لأداء دور ليندا: "عندما وصلتُ إلى الكاستينغ، كان السيناريو خالياً من أيّ حوار، فقال لي مايكل: قولي ما تريدين. فاعتقدتُ انه هكذا تكون صناعة الأفلام. ثم عملتُ مع هارولد بينتر (كتب سيناريو "زوجة الضابط الفرنسي" لكاريل رايتز)، فاكتشفتُ أنّه لا، ليست صناعة الأفلام هكذا البتة". تقارن ستريب بين العمل في المسرح والعمل في السينما، وتقول إنّه في الأفلام نَقْل الانفعال إلى المُشاهد أسهل. في رأيها، أنّ الممثل يتحوّل في بعض المَشاهد كاتباً، فهو يكتب النصّ بانفعاله وأحاسيسه وما أوتي به من طاقة، خصوصاً إذا كانت الشخصية التي يجسّدها متعددة الطبقة.



على السجادة الحمراء.


بالنسبة إليها، "المُشاهد لا يرى هذا كله، ولكن يشعر به". طوال مسيرتها، تقمّصت ستريب شرائح مختلفة من النساء. خاضعات، ثائرات، مكبوتات، مهملات، محبوبات، إلخ. قبل خمسة أعوام، أسند إليها فيلليدا لويد (التي كانت أنعشتها قبله بثلاث سنوات في "مامّا ميّا!" بألوانه الزاهية وأغنيات فرقة أبّا السبعيناتية) دور مارغريت تاتشر الذي نالت عنه ثالث "أوسكار" لها، لتصبح ثاني ممثلة في التاريخ تفوز بأكبر عدد من التماثيل الذهبية - الأولى هي طبعاً كاثرين هاببرن (٤ "أوسكارات"). دور المرأة الحديد التي ساهمت في قيام نظام ليبرالي جديد في العالم، ألهمها خلال اللقاء لتطعيم حديثها عن السينما ببعض المواقف السياسة. إبداء آراء سياسية وحتى الانخراط في النشاط السياسي، أمران طبيعيان عند الفنانين الأميركيين، خلافاً لزملائهم الأوروبيين الأكثر تحفظاً في هذا المجال. فيما أنظار العالم تتجه حالياً إلى الولايات المتحدة التي ستنتخب رئيساً جديداً لها في الثامن من تشرين الثاني، تحدّثت ستريب، وهي مؤيدة معروفة للمرشحة الديموقراطية هيلاري #كلينتون عن سياسية أوسترالية تحدّت أحد البرلمانيين بنبرة نسوية متزنة. ستريب سيدة ناضجة تعرف ماذا تريد، وتسعى إلى الإقناع بصوت خافت ومنطق حكيم. تقول مثلاً إنها لا تضيّع وقتها في الحديث عن دونالد #ترامب الذي تحتقره وتمقت معاملته المرأة. لم ترد أيّ تعليق أكثر من هذا خلال المؤتمر الصحافي في شأن الملياردير ذي الشعر الذهبي، فكلّها ثقة بأنّ كلينتون ستصبح أول امرأة تتبوأ منصب الرئاسة في الولايات المتحدة. في الحديث عن تاتشر، تقول: "كلّ سيدة اختبرت نوعاً من الازدراء عندما كانت في مكانة ليس من المفترض أن تكون فيها. كلّ الذين يطالبون هيلاري "لا ترفعي صوتك وأنت تخطبين، كوني أكثر جاذبية"، يجعلونكَ ترغب في الردّ عليهم بأنّ الأهم هو ما تقوله لا كيف تقوله. لي الكثير من الانحياز - إذا كان الانحياز الكلمة المناسبة هنا - لتاتشر، لأنها دخلت عالماً لم تكن المرأة مرغوبة فيه، عالم الرجال، خصوصاً لمرأة كانت تريد أن تكون قائدة".



السيدة الحديد مهرجة أيضاً.


أشعلت ستريب الصالة عندما أشارت إلى سيلفانا منغانو وآنّا منياني كممثلتين مرجعيتين لها، في حين تجد في ألبا رورفاكر (١٩٧٩) من الجيل الجديد موهبة استثنائية. تقول: "اكتشفتُ منغانو ومنياني في مرحلة حساسة كانت تمرّ فيها السينما الأميركية؛ لم تكن سينمانا تقدّم أيّ دور مشوّق للنساء. شاهدتُ أفلام هاتين الإيطاليتين في المهرجانات المخصّصة للأفلام الأجنبية داخل حرم الجامعة، عندما كان لا يزال ثمة أشياء كهذه في الجامعات. كنت أحبّ أيضاً سيمون سينيوريه. هؤلاء الممثلات اكزوتيكيات بالنسبة إليّ، أنا الريفية. لديهن شيءٌ نقيٌ. لذلك ذكرتُ ألبا، لأنها نقيّة".


عندما يسألها محاورها المدير الفني لـ"عيد روما السينمائي"، أنتونيو موندا، إذا استلهمت شخصيتها في "جسور مقاطعة الماديسون" من سيلفانا منغانو، ترّد بـ"لا" قاطعة، ما يفجّر ضحك الجمهور على صراحتها وعفويتها. "كنتُ أتمنى أن أمتلك جمالها. تحفّظها كان يجذبني. ولكن في الحقيقة استلهمتُ شخصية فرانتشيسكا من سيدة إيطالية كانت تعيش وعائلتها في الجهة المقابلة لحيّنا أثناء طفولتي. كانت تدعى نوتشي. كان اسمها اكزوتيكياً، كون كلّ الآخريات حملن أسماء كاثي وباربرا وجين. هي اسمها نوتشي! كانت متزوجة من جندي شارك في الحرب العالمية الثانية، ولها طريقة عجيبة في قول كلمة زبالة".



خلال عرض مقتطف من "كرايمر ضد كرايمر".


في جديد ستيفن فريرز، "فلورنس فوستر جنكينز" الذي يُفتتح به مهرجان طوكيو هذا المساء، تضطلع ستريب بدور سيدة تنتمي إلى الطبقة الأريستوقراطية وتداعب حلم الغناء الأوبرالي، فتريد اعتلاء المسرح رغم رداءة صوتها. فيلم شبيه بـ"مارغريت" لكزافييه جيانولّي، الذي اقتبس العام الماضي حكاية جنكينز. كان لا بدّ من سؤال في نهاية اللقاء عن الغناء في حياة ستريب. هل كانت تحلم أن تغني في يوم من الأيام؟ تردّ: "ممممم. نعمممم، لاااااا (ضحك). عندما كنتُ في الثانية عشرة، غنيتُ ضمن نشاط مدرسي ترنيمة مسيحية باللغتين الإنكليزية والفرنسية، ما كان يُعتبر إنجازاً غير معقول في نيوجرسي، فجاء رجل وقال لأهلي أنّه يجب ضمّي إلى صفٍّ لتهذيب الصوت. عرف هذا الرجل مدرّساً عظيماً في نيويورك، كان مدرّس بفرلي سيلز التي كانت سوبرانو أميركية رائعة. كلّ سبت صباحاً، كانت تقودني أمي بسيارتها إلى نيويورك، وتستغرق الرحلة ساعة ونصف الساعة. كنّا ننتظر في الخارج، ريثما ينتهي المدرّس من تمرين بفرلي سيلز. كنّا نستمع إليها وهي تغني. إلا أنّني تخليتُ عن الفكرة بعد بضع سنوات. أردتُ أن أكون راقصة تشيرليدر، كم كنت حمقاء!".


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم