السبت - 11 أيار 2024

إعلان

كانّ ٧٢ – "حياة خفية": كأنها وصية ترنس ماليك

المصدر: "النهار"
كانّ ٧٢ – "حياة خفية": كأنها وصية ترنس ماليك
كانّ ٧٢ – "حياة خفية": كأنها وصية ترنس ماليك
A+ A-

في "حياة خفية"، فلاح نمسوي أبٌ لثلاث بنات (أوغست ديل)، يرفض رفضاً قاطعاً الالتحاق بالجيش النازي خلال الحرب العالمية الثانية. لا عقيدته ولا مبادئه الإنسانية تسمحان لهذا الممانع، بخدمة الشر واعلان الولاء غير المشروط لهتلر. عصيانه هذا سيزج به في السجن، ويضعه هو وعائلته في مواجهة أهل قريته الذين سيعتبرونه خائناً.

من خلال الرسائل التي يتبدالها مع زوجته (فاليري بشنر)، يروي ترنس ماليك بأسلوبه الأوبرالي الذي ينطوي على التكرار والتجزئة والقفزات المونتاجية، سيرة صحوة ضمير. رجل وحيد يواجه بشاعة العالم، يتقبّل مصيره بلا أي مقاومة أو احتجاج. على رغم تعرضه للمهانة، والاستبعاد، والتعذيب، لن تثور روحه، لأن الثورة في موقفه المعلن الذي يذعن لعقاب الشرّ، وإن دفع حياته ثمناً له.

ثماني سنوات بعد فوزه بـ"السعفة" عن "شجرة الحياة"، يعود المعلّم الأميركي إلى كانّ بفيلم يُعرَض في المسابقة. طوال السنوات الثماني التي شاركت فيها أفلامه في كلٍّ من برلين والبندقية، انخرط صاحب "أيام الجنة" في ما يحلو لي تسميته بالامتحان الذي شهد تكريسانهائيا للنمط الذي طوّره عبر السنوات (تراكم شذرات فيها الكثير من الميستيكية واللازمة البصرية). ترسّخت اقتناعاته ومواقفه من الطبيعة البشرية في أربعة أفلام تعطي الانطباع بأنها تعانق العالم من أقصاه إلى أقصاه.

سينما ماليك متحررة من كلّ قيد أو شرط، بعيداً من ضغوط أصحاب المال وذوي القرار، تحتكر الأدوار وتختزل الأنماط. لا حبكة، لا تطوّر واضحاً للحوادث، انما خربطة وتعطيل ممنهج لكلّ ما يتم توظيفه كخيط رفيع داخل المنظومة الحكائية. ولكن، بعد مشاهدة "حياة خفية"، قد يصل الحكماء منّا إلى الاقتناع الآتي: الأفلام الأربعة كانت ضرورية ليصل إلى حيث هو الآن. فالتجارب السينمائية العظيمة تتولد أحياناً من رحم تجارب سينمائية أخرى، شأنها شأن الحياة.

يجب القول انه في كلّ مرة وجد ماليك نفسه أمام قضية، حكاية كلاسيكية، لحظة من التاريخ، وصل بها إلى ذروة سينماه، وذورة التلاقي والانصهار بين الشكل والمضمون. النقيض هو ما كان يحصل في المرات التي تُرك فيها على سجيته، يسرح بكاميراته ويمرح على الشواطئ أو في السهول، كثائر بلا قضية يقتات أمجاد الماضي. هنا، في "حياة خفية"، تلتقي كلّ الأشياء، بعضها مع بعض، في كيمياء لا تحصل الا نادراً: النمط الماليكي العصيّ على التقليد بالأطروحة الفلسفية للخير والشر والايمان. فتنتج من هذا اللقاء، قصيدة سينمائية، صلاة، تمسك من عنق المُشاهد طوال نحو ثلاث ساعات ولا تتركه سوى مع صعود جنريك النهاية، مانحاً إياهالاحساس بأن المخرج السبعيني يكتب مع هذا العمل الكبير وصيته السينمائية.

لطالما ارتبطت سينما ماليك في الوجدان الجمعي بالايمان، وهذه مغالطة، ذلك ان لا يقين في أفلامه، بل أسئلة كبرى لا جواب عنها: هل يُمكن التصدي للشر المتأصل في الإنسان؟ لمَ الايمان لا ينقذ صاحبه؟ غياب الله، صمته، خلال الحروب والمآسي، هذا أيضاً يلقي بظله على "حياة خفية"! لا وجود لأي شيء عند ماليك من دون الاحتفاء بالطبيعة، الحضن الدافئ للإنسان، بقسوتها، وروعتها، وأمومتها. تداعبها الكاميرا في مسارات وحركات ترافلينغ لا يمكن وصفها. رادغوند النمسوية وجبالها ووديانها، تغدو مسرحاً لتراجيديا اغريقية. حيث الأخضر يصبح في كونتراست واضح مع السواد الآتي من خلف التلال المغطاة بالثلوج. بتناغم واستسلام نادر للفكرة، يصوّر ماليك حكاية هي نقيض البطل الكلاسيكي الهوليوودي (حكاية دسموند دوس في "هاكسو ريدج"، رائعة ميل غيبسون مثلاً)، الذي يرى في موقفه من الشر وفي درب الجلجلة التي يختارها لنفسه، خلاصاً للبشرية.

الأحاسيس الإنسانية عند ماليك تجد ترجمات لها في الطبيعة. لحظة الأسى يتم التعبير عنها عبر حفيف ورق الشجر، القلق عبر بانوراما للجبال الشاهقة، الانتظار عبر تدفق المياه، وهكذا بالنسبة إلى السعادة والفرح والأمل. لا شيء على وجوه الشخصيات سوى ظلّ المواسم التي تمر. كلّ الأسرار هنا في التراب الذي صُنعوا منه، في الهواء الذي يهب عليهم، في الصدى الذي سيردد حكاياتهم. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم