السبت - 11 أيار 2024

إعلان

الفرصة في مسألة الإبادة الجماعيّة

المصدر: "النهار"
لين زوفيغيان
الفرصة في مسألة الإبادة الجماعيّة
الفرصة في مسألة الإبادة الجماعيّة
A+ A-

كثيراً ما نجدُ أنفسنا نتحدّث عن الإبادة الأرمنيّة بصيغة سؤالٍ يتطلّب الكثير من الحسابات والاعتبارات، ولكن أليس اعتبار أيّة إبادةٍ "مسألةً" بحدّ ذاتها يشكّل رسالةً مثيرة للجدل؟

نعم وبلا ريب، فقد شهد العام الجاري 2019 بعض التطوّرات المهمّة على صعيد قضيّة الاعتراف بالإبادة. ففي الخامس من شباط أعلن الرئيس الفرنسي أنّ الرابع والعشرين من نيسان هو يوم وطنيّ لإحياء الذكرى في فرنسا. كذلك نجح التصويت على الاعتراف في مجلس النوّاب الإيطالي يوم العاشر من نيسان بـ382 صوتاً مع وبدون أي صوت معارض، مع امتناع 43 نائباً عن التصويت. كما أقرّ مجلس الجمهوريّة البرتغالي قراراً بالتضامن والاعتراف بالإبادة في السادس والعشرين من نيسان الماضي.

لكن تزامناً مع تنامي الزخم الداعم للاعتراف، علت الأصوات الدفاعيّة من القيادة التركيّة. في الحادي عشر من نيسان أصدرت وزارة الشؤون الخارجيّة تصريحاً يُدين قرارات فرنسا وإيطاليا، وقد طعن التصريح في مصداقيّة قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، معتبرةً إيّاه امتداداً للمناورات السياسيّة المتّبعة عام 2017 لكسب أصوات الناخبين الأرمن في الانتخابات الرئاسيّة. وشمل القرار تهديداً مبّطناً بأنّ هذا "السلوك [....] سيؤثّر على العلاقات [الفرنسيّة] مع تركيا بشكل سلبي". وقد عبّرت الوزارة أيضاً عن مفاجأتها من إقدام حزب الرابطة الشماليّة الإيطالي على صياغة القرار، مصرّحةً أنّه هكذا أعمال تُثبت سَعي الرابطة وراء "تخريب العلاقات بين تركيا وإيطاليا". لننتظر كي نرى المستجدّات من طرفهم على ضوء التصويت الأخير في البرتغال.

مع ذلك، فإنّ السياسة التركيّة ليست قائمة على الأبيض والأسود. لقد كنتُ مؤخّراً في اسطنبول لحضور الافتتاح الخاصّ بـ"23.5 موقع ذكرى هرانت دينك" في الثالث والعشرين من نيسان الماضي، لتخليد ذكرى الصّحافي والمفكّر الحرّ هرانت دينك الذي قُتل في التاسع عشر من كانون الثاني عام 2007، الذي لا تزال محاكمة الجناة في قضيّته مستمرّة نحو العدالة بالرغم من البطء المؤلم. خلال إعادة افتتاح مسرح الاغتيال كانت شرطة محافظة اسطنبول على قدر عالٍ من التعاون والتنسيق لتوفير الأمن، ومراسم الافتتاح التي استمرّت ليومين كانت محترمة ومشجّعة ولبّت حاجة ملحّة. لم تحصل أيّة اضطرابات تخلّ بالسلم العام، وهذا يَشهد وبجدارة لرؤية هرانت دينك وجريدته السابقة آغوس، وتصوّرهما لمجتمع تتعزز فيه الهويّة التركيّة الأرمينيّة وتتعايش بسلام.

إلّا أنّه وفي اليوم التالي المصادف الرابع والعشرين من نيسان، وبينما كنت متوجّهةً إلى ساحة سلطان أحمد للمشاركة في تجمّع إحياء ذكرى الإبادة، وصلني خبر بأنّ القوّات الأمنيّة أغلقت الطرقات. لم يُعقد المؤتمر الصحفي، وللأسف بالرغم من مناشدة وجهاء المجتمع الأرمني لإعادة فتح الطرق، إلّا أنّه لم يُكتب للخمسين ألف مواطن تركي أرمني أن يُمنحوا مكاناً للتجمّع السلمي.

قد أمست السياسات التركيّة الداخليّة والخارجيّة تنتقص من مصداقيّة سياسة عدم الاعتراف، فقد بتنا نلحظ نبرةً دفاعيّة صبيانيّة بعض الشيء في تصريحات وزارة الشؤون الخارجيّة، بما شكلّ مفارقة عن النبرة الرزينة والموزونة التي طغت على التصريحات السابقة للجمهوريّة.

اليوم أصبح المناخ السياسي مواتياً للاعتراف بالإبادة الأرمنيّة، وبات من السهل سياسيّاً تبنّي مبدأ "لن نسمح لهذا بالحدوث مجدّداً". السّاسة وجماعات الضغط والناشطون كلّهم يقفون بشكلٍ فعّال إلى جانب الحق.

نحن الذين نصطفّ مع الإنسانيّة نتقبّل موجة الاعترافات، ولكن ليس بسبب المشقّة التي عانتها الأمّة الأرمنيّة فحسب، بل علينا نحن أرمن الشتات أن نلعب دوراً حيويّاً في استلام زمام المبادرة والإعلاء من دورنا القيادي، وعلينا أن نقوم بذلك بكامل الكياسة والفطنة الاستراتيجيّة، وألّا نقبل أيّ شيء دون ذلك. يجب ألّا نسمح بأن يتمّ وضعنا في هذا المناخ السياسي، وألّا يتم اختزال الإبادة في مسألة يترصّدون الفرصة لطرحها في الوقت المناسب.

علينا أن نتدخّل ونُلغي هذا النوع من الحديث عن الإبادة الأرمنيّة، فليس في عالمنا القائم على العمل أي متّسع للافتراضات التفلسفيّة وهزهزة الرؤوس. هناك الكثير من الأسئلة التي تستوجب الانتباه يجب أن تُطرَح كدليل لحوار جديد: هل نحن أصلاً نتناظر ونتحاور في القضايا الصحيحة؟ لماذا لا نزال نتلفّت إلى المؤسّسات السياسيّة والقانونيّة بشكلٍ تلقائيّ، متوقّعين منها أن تكون المحطّة الأسمى لإعلاء المناشدة الإنسانيّة وحمل لواء العمل؟

هل بإمكاننا تقبّل فكرة أنّ المصلحة السياسيّة تلعب دوراً مؤثّراً وضاغطاً بشكلٍ أكبر من بوصلة الحقّ والعدالة والإنسانيّة؟ لماذا علينا أن نترصّد الفرصة للاعتراف بينما المجال مفتوح دائماً أمامنا لنتفهّم ونتعمّق ونعمل؟ أعود وأقول كما قلت في الخامس من آب 2018، في الذكرى الرابعة للإبادة الإيزيديّة: لماذا نتقبّل نحن أن توضع الإبادة في منزلة الدفاع؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم