السبت - 11 أيار 2024

إعلان

"ماريان وليونارد": زمنٌ للحبّ وزمنٌ للوداع

المصدر: "النهار"
"ماريان وليونارد": زمنٌ للحبّ وزمنٌ للوداع
"ماريان وليونارد": زمنٌ للحبّ وزمنٌ للوداع
A+ A-

"ماريان وليونارد: كلمات حب"، ينبش في الذاكرة الخصبة. هذا لا يشبه أي فيلم آخر عن الحبّ، لأنه يمتد على مسافة زمنية تتجاوز النصف قرن، ابتعد الحبيبان أحدهما عن الآخر خلالها كثيراً، ومع ذلك ظلّ الحبّ متماسكاً، حيّاً، نزيهاً. على الأرجح تحوّل ليأخذ شكلاً آخر. انها الحكاية التي جمعت نروجية تُدعى ماريان أهلين والمغنّي الكندي اليهودي ليونارد كوهين في الستينات على جزيرة هيدرا اليونانية، يوم كان العالم غير هذا الذي نعرفه حالياً. بقيت أصداء العلاقة تتردد لسنوات بعد لقائهما الأول حتى رحيلهما في العام ٢٠١٦، هي في تموز وهو في تشرين الثاني من العام نفسه. غيابه بعد أربعة أشهر على غياب ملهمته، فيه شيء من الرمزية. فحتى بعد انفصالهما، غير الواضح وغير النهائي وغير المكتمل الشروط، ظلّ أحدهما في احساس الثاني ووجدانه. هي تحوّلت أغنية ("وداعاً ماريان") بصوته العذب، وهو أمسى بالنسبة إليها هذا الحلم الذي يبقى قابلاً للتصديق مهما طعن الإنسان في العمر، ومهما طال الزمن.

هذه واحدة من أغرب العلاقات الغرامية على مرّ التاريخ، وأكثرها نقاءً وصفاءً وعذوبةً، تنتقل إلى الشاشة في عمل رقيق، يحملنا زمنياً ومكانياً إلى قصّة يدمع لها القلب. الإخراج للبريطاني نيك برومفيلد، السينمائي القدير الذي سبق ان اعطانا أفلاماً مهمة كـ"معركة حديثة" و"كرت وكورتني"، وغيرهما من الأعمال التي تولي التوثيق أهمية قصوى.

بعد عرضه في سانداس مطلع هذا العام، كانت للفيلم محطة في مهرجان #تسالونيك (١ - ١٠ الجاري). العرضان كانا "مفوّلين"، ولولا لائحة الانتظار لما تمكّنتُ من مشاهدته لكثرة الطلب عليه من الجمهور اليوناني.

العلاقة التي كانت تربط برومفيلد بماريان أهلين شكّلت قيمة مضافة للعمل. هو أيضاً تعرّف عليها في جريزة هيدرا عام ١٩٦٨، وكان عشيقها لفترة، ويبدو انها السبب في دخوله السينما، اذ كانت ملهمته أيضاً. يمكن القول انه يعرف عمّا يتحدّث. مع ذلك، هذه المعلومات مغيّبة عن الفيلم الذي يحاول اقحامنا في أجواء الستينات والسبعينات، والثورة التي طرأت على المجتمعات الغربية وغيّرت معنى الجنس والحبّ والعلاقة. السياقات مهمة، هي جزء أساسي من حكاية ماريان/ ليونارد، والنصّ هنا حريص على التأرجح بين الخاص والعام للاتيان برؤية شاملة، وإن سطحية أحياناً، لحقبة نتذكّرها اليوم تحت عنوان "الثقافة المضادة".

يتعرف ليونارد على ماريان في هيدرا عام ١٩٦٠. كانت هي جزءاً من مجموعة بوهيميين يعيشون في هذه البقعة الأشبه بالفردوس. كانت هيدرا محجّاً للفنانين الطامحين إلى حياة مختلفة، بعيداً من المعايير الغربية السائدة. لم يكن ليونارد قد انطلق في رحلته مع الغناء بعد، فكان يجلس تحت شمس الجزيرة الحارقة ويحاول الكتابة. فشله الذريع كروائي اثر صدور "فاشلون جميلون" عام ١٩٦٦، حمله بالمصادفة إلى الغناء بتشجيع من جودي كولينز، فأصبح في الأعوام التالية أحد كبار الغناء في الغرب. صوت عذب، كلمات فيها ميل أدبي تحمل في داخلها حنيناً ورومنطيقية، وأداء حميمي انثوي خافت يستعير أحياناً من الجاز واللحن الشرقي.

وقع ليونارد في غرام الجزيرة وماريان. أغوته كذلك فكرة ان يكون أباً لطفلها الذي كانت ماريان أنجبته من علاقة زواج سابقة. بقية حياته كانت عبارة عن تنقّل بين أميركا والجزيرة، تائه ربما يصعب عليه الحسم بين مستقبله الموسيقي وغرائزه الزوجية والأبوية. كان الرجل في حالة هروب مستمرة، من ذاته والآخرين. الفيلم يجعلنا نكتشف كم ان سيرته لا ترقى إلى سيرة أساطير الغناء، بل كانت عادية إلى حدّ ما.

"ماريان وليونارد: كلمات حب"، من الأفلام التي ترد الاعتبار إلى المرأة، ولكنه اعتبار خالٍ من أي كيد أو مبالغة. يُرينا كم التضحيات التي قدّمتها ماريان مقابل الحياة الصاخبة التي عاشها ليونارد في شبابه والتي حولته إلى "رجل النساء". برومفيلد يميل اليها في طبيعة الحال. يختار الانتصار للطرف الأضعف. يضع اسمها في بداية العنوان.

من خلال صور ولقطات أرشيفية بالغة الأهمية لا نعرف من أين جاء بها، ركّب برومفيلد فيلماً كاملاً لا يكاد تنقصه أي صورة لتعقّب السيرة الكاملة للثنائي. شهادات المعاصرين الذين اضطلعوا بدور ما في سيرة الثنائي، يدلون بدلوهم في "القضية". أحدهم هي أفيفا لايتون، الزوجة السابقة للشاعر إيرفينغ لايتون (استاذ كوهين)، التي ترسم بورتريهاً نادراً لليونارد، فتقول: "هذا الشاعر كان يجعل المرأة التي يحبّها تحس بأنها مهمّة وجميلة، لكنه لم يستطع يوماً ان يهب نفسه إلى أيٍّ منهن، حتى ماريان التي أحبّها. لم يكن ليونارد لأحد".

حتى الأرشيف "ظالم" في حقّ ماريان، لكونها بقيت في ظلّ رجل عاش حياته على أوسع نطاق، وفاز تالياً بالحضور الأهمّ قبالة الكاميرا. استعان برومفيلد بتسجيلاتها كي يروي شذرات من حكايتها. هذا يمد الفيلم بالكثير من العذوبة. ليونارد أيضاً عذب، بالرغم من عدم قدرته على التزام حب واحد وإنسان واحد وسيرة واحدة، اذ سنجده وهو رجل تجاوز منتصف العمر، "متصوّفاً" يركع في معبد بوذي، خادماً أحد الرهبان، محاولاً اغراق حالة الاكتئاب التي أصابته. كان رومنطيقياً، يتحدّث بصوت خافت، شيء من الندم في عينيه. مات فقيراً، بعدما خُدع وسُلب ثروته. ترك خلفه حفنة من الأغاني التي تعرف انها له بمجرد سماع مطلعها.

لا تنتهي حكاية ماريان/ ليونارد بمأساة. تتواصل فصولها في عالم الغيب، بالروح الحنينية العذبة عينها التي بدأت بها في هيدرا مطلع الستينات. ولكن، بدلاً من ان نراهما على شاطئ البحر وتحت أشعّة الشمس، نراها على فراش الموت في غرفة بيضاء عصرية، أما هو فيقف في الجانب الآخر للمحيط مراسلاً اياها بالكلمات الآتية: "حسناً ماريان، يبدو انه حان الوقت الذي كبرنا فيه فعلاً وجسدانا بدأا يتداعيان. أظن اني سألحقبك قريباً جداً. اعلمي اني خلفك، وإن مددتِ يدك فستمسكين بيدي". 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم