الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

غورباتشيوف تنازل أمامي نوويا في موسكو وتمسك بالجوهر وضرورة الثقة

المصدر: "النهار"
Bookmark
غورباتشيوف تنازل أمامي نوويا في موسكو وتمسك بالجوهر وضرورة الثقة
غورباتشيوف تنازل أمامي نوويا في موسكو وتمسك بالجوهر وضرورة الثقة
A+ A-
كانت لقاءاتي الاخرى وشيفاردنادزه عادية ذلك اليوم، فقد اثرت مسألة اميركا الوسطى مجددا، مؤكدا ان استمرار شحنات الاسلحة الى ماناغوا يمكن ان يعرقل التقدم في اماكن اخرى. وابدى شيفاردنادزه بدوره اهتمامه باقتراحنا الذي كانت الانتخابات اساسه المركزي. فلاحظ انه كان قد اجرى اتصالات عديدة بالنيكاراغويين... قال: "استطيع ان اطمئنكم الى انهم مستعدون لاجراء الانتخابات على اساس ديموقراطي حقيقي، حتى لو كانوا سيخسرون". ورغم انه كان على ما يبدو يشير الى اصلاح قانون الانتخابات في نيكاراغوا (الذي كان سيمنح الساندنيستا مزايا كبرى في اي حال) فربما كان شيفاردنادزه آنذاك يتنبأ بفشل الساندنيستا على نحو اشد ادراكا من معظم المراقبين الغربيين. واما بالنسبة الى الشرق الاوسط فقد طرح مرة اخرى فكرة عقد اجتماع هناك، قائلا: "اننا نرغب في ان نحلم باشياء كهذه". وقد سنحت لنا فرصة اجراء محادثات لمراجعة قضايا الحد من انتشار السلاح، وهي المحادثات الاولى الموسعة التي تجاوزت الاطار الاستراتيجي، واتفقنا على ان محادثات START ينبغي ان تبدأ في جنيف قريبا. في ذلك المساء، انضممت انا وزوجتي سوزان الى شيفاردنادزه وزوجته نانولي، في شقتهما، لنشرع في ما تطور الى صداقة وثيقة وحميمة ومستمرة. كان المبنى الذي يضم الشقة يبدو كالمباني الاخرى في موسكو، وكان علينا استعمال مصعد صغير لا يتسع الا لثلاثة اشخاص، الا ان الشقة نفسها كانت فائقة الترتيب، ومزينة بزخارف جيورجية. وكان معظم الطعام الذي اعد على الطريقة الجيورجية ايضا، من صنع نانولي، ويبدو ان شيفاردنادزه كان قد اكتشف هواياتي، ولهذا قدم لي بندقية صيد على سبيل الهدية. من الناحية الديبلوماسية قدم الغداء لي استبصارا في اعماق فهم شيفاردنادزه للتغيرات التي طرأت على الاتحاد السوفياتي. فمن الواضح انه كان مدركا طبيعة التحديات الكبرى التي تواجهها البيروسترويكا، وكان قاطع الرأي بالنسبة الى موضوع قدرة النظام على ادارة التغيير. وقد اخبرنا بقوله: "عندما جاء غورباتشيوف الى السلطة لم تكن لدى احد منا اية فكرة حول ما كنا نواجهه من حيث موضوع الاقتصاد". وكانا قد لاحظا الى اي مدى اصبح الاتحاد السوفياتي متخلفا في مجال العلوم والتكنولوجيا. كما ادركا انه لن يكون ثمة اصلاح حقيقي اذا لم يحدث اصلاح في النظام السياسي. قال شيفاردنادزه: "ما لم يصبح الناس منخرطين في العملية السياسية فان التغيرات تظل متعذرة. لا يمكن ان تكون هناك بيروسترويكا ولن تكون، اذا لم يصبح الناس سادة البلاد سياسيا". ولكن عندما سألته بالحاح هل سيؤدي هذا الى ظهور ديموقراطية الاحزاب المتعددة، قال ان النظام يأمل في تحقيق التغيرات داخل دولة الحزب الواحد. لقد كان التناقض واضحا، ولكن شيفاردنادزه بدا عظيم الامل في قدرة الحزب الشيوعي على تجديد نفسه واستيعاب قوى سياسية جديدة. وكان هذا يمثل احدى القضايا السياسية القليلة التي كان يضع على عينيه عصابة في ما يتعلق بها، رغم انه سرعان ما غير موقفه مع مرور الزمن. ولم يكن متعذرا عليه ان يشرح مشكلات القوميات التي تواجهها القيادة. وقد بدأ المناقشة بحذق، ملاحظا ان كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يتألف من مجموعات سكانية "متعددة القومية" واستعمل هذه النقطة غير المؤذية منطلقا لابلاغنا انه رغم ان الاتحاد السوفياتي يفترض ان يتألف من 15 حكومة منفصلة، فان "معظم ما يقال في هذا الشأن هو مجرد كلام"، اذ ان النظرية لم توضع موضع التطبيق. وتساءل بطريقة خطابية: "ما هو ذلك الاتحاد السوفياتي، اتحاد الجمهوريات والقوميات...؟". اجاب عن تساؤله بالقول ان مشكلة القوميات هي "الاشد صعوبة وازعاجا" والتي يواجهها الاتحاد السوفياتي. واخبرني انه عندما قام بزيارة لمنزله في جمهورية جورجيا بعد حوادث العنف في تبليسي، وجد الناس هناك مختلفين تماما الآن. كانت هذه المرة الاولى التي ناقش فيها المسألة بعمق. وسرعان ما ادركت من خلال لقاءاتي بشيفاردنادزه في ذلك الصيف والخريف، كم كان متفهما لمشكلة القوميات. لقد ادرك بالبديهة ان البيروسترويكا والغلاسنوست والتفكير الجديد لم تكن كفيلة اطلاق اعادة الاحياء الاقتصادي فحسب بل اطلاق العواطف التاريخية والقومية والتوترات التي لم تكن كامنة عميقا تحت السطح في المجتمع السوفياتي. وكان قلقا ازاء موضوع القوميات اكثر من الاقتصاد. غير ان هذا القلق لم يكن يشاركه فيه غورباتشيوف الذي كان يركز على الاقتصاد اولا وقبل كل شيء، بطريقة نطرية ومجردة، ويبدو ان غورباتشيوف لم يكن يدرك ما فيه الكفاية، الحوافز القومية التي كانت سياسته نفسها تطلقها من عقالها. والحال ان ردود افعال نانولي شيفاردنادزه على محادثتنا زودتني دليلا واضحا على الكيفية التي كان ينظر وفقها الى الاحداث من خلال عدسة القومية. ففي اعقاب حوار قصير حول ايران، قالت لي ان الفرس كانوا اعداء الشعب الجيورجي لقرون... وانها اصيبت بصدمة عندما شاهدت صورة زوجها مع آية الله. ورغم احتجاج شيفاردنادزه، ارادت ان تناقش بعض الاحداث المنتزعة من التاريخ الفارسي... قالت بصوتها المفعم بالارادة والصدق والذي كان منعشا باستمرار: "لدي موقفي الخاص من ايران". وحاول باستماتة ان يقاطعها بالاشارة الى ان آراءها ربما كانت غير مطابقة للاراء التي يحملها معظم السوفيات، فأجابت: "انت على حق، موقفي هو الموقف الجيورجي". ومضت تقص علينا قصة من القرن السابع عشر...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم